صفحة جديدة 1
فصل
وأمّا الكُحل، والحقنة، وما يُقْطَر في إحليله، ومداواة المأمومة، والجائفة، فهذا
مما تنازع فيه أهل العلم؛
فمنهم مَنْ لم يُفَطِّر بشيء من ذلك..
ومنهم مَنْ فَطّر بالجميع لا بالكُحل..
ومنهم مَنّ فطر بالجميع لا بالتقطير..
ومنهم مَنْ لم يفطر بالكحل، ولا بالتقطير، ويُفَطّر بما سوى ذلك.
والأظهر أنه لا يُفْطِر بشيء من ذلك.
فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه
الأمور مما حَرّمها الله ورسوله على الصائم، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على
الرسول (صلى الله عليه وسلم) بيانه، ولو ذكر ذلك لعلّمه الصحابة وبلغوه الأمة كما
بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في
ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً، ولا مسنداً ولا مرسلاً عُلِمَ أنه لم يذكر شيئاً
من ذلك.
والحديث المروي في الكحل ضعيف رواه أبو داود في «السنن» ولم يروه غيره، ولا هو في
«مسند أحمد» ولا سائر الكتب المعتمدة.
قال أبو داود: حدثنا النُّفَيلي، قال: حدثنا علي بن ثابت، قال: حدثني عبد الرحمن بن
النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر
بالإثمد المُرَوَّح عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم».
قال أبو داود: وقال يحيى بن معين: هذا حديث منكر.
قال المنذري: وعبد الرحمن قال يحيى بن معين: ضعيف.
وقال أبو حاتم الرازي: هو صدوق، لكن مَنْ الذي يعرف أباه وعدالته وحِفْظَه؟!
وكذلك حديث معبد قد عُورض بحديث ضعيف، وهو ما رواه الترمذي بسنده عن أنس بن مالك
(رضي الله عنه) قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت عيني،
أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: «نعم».
قال الترمذي: ليس بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء،
وفيه أبو عاتكة، قال البخاري: منكر الحديث
والذين قالوا: إن هذه الأمور تُفَطّر - كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة- لم يكن
معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس..
وأقوى ما احتجوا به قوله (صلى الله عليه وسلم): «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون
صائماً».. قالوا: فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يُفَطِّر
الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفِعْله من حقنة وغيرها،
سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه.
والذين استثنوا التقطير؛ قالوا: التقطير لا ينزل إلى جوفه وإنما يرشح رشحاً،
فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه.
والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقُبُل والدُّبُر، ولكن هي تشرب الكحل
كما يشرب الجسم الدهن والماء.
والذين قالوا الكحل يُفَطّر قالوا: إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخمه الصائم؛ لأن في
داخل العين منفذاً إلى داخل الحَلْق.
وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يَجُز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه:
أحدها: أن القياس وإنْ كان حجةً إذا اعتُبِرَت شروط صحته فقد قلنا في الأصول: إن
الأحكام الشرعية كلها بيّنتها النصوص أيضاً، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل
عليه النَّص دلالة خفية.
فإذا علمنا بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يُحَرّم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه
ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في
الكتاب والسُّنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا
أنها ليست مُفَطّرة.
الثاني: أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يُبَيّنها الرسول صلى
الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا عُلِم أن هذا
ليس من دينه، وهذا كما يُعْلَم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حَج بيتٍ غير
البيت الحرام، ولا صلاةً مكتوبةً في اليوم والليلة غير الخمس.
وأنه لم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم،
وإن كان في مظنة خروج الخارج.
ولا سَنّ الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سَنّ الركعتين بعد الطواف
بالبيت.
وبهذا يُعْلَم أن الْمَني ليس بنجس؛ لأنه لم يُنْقَل عن أحد بإسناد يُحْتَج به أنه
أَمَرَ المسلمين بِغَسْل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك، بل أَمَر
الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قِلّة الحاجة إلى ذلك، ولم يأمر المسلمين
بغَسْل أبدانهم وثيابهم من المني.
والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء: «يُغْسَل الثوب من البول والغائط والمني والمذي
والدم» ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء من كتب
الحديث التي يُعْتَمد عليها، ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يُحْتَجُّ
به.
وإنما رُوِي عن عمار وعائشة (رضي الله عنهما) من قولهما.
وغَسْل عائشة (رضي الله عنها) للمني من ثوبه وفركِها إياه لا يدل على وجوب ذلك فإن
الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق.
والوجوب إنما يكون بأَمْره، لاسيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغَسْل ثيابهم من
ذلك، بل ولا نُقِل عنه أنه أَمَر عائشة (رضي الله عنها) بذلك، بل أقرها على ذلك،
فدل على جوازه أو حُسْنه واستحبابه، وأما الوجوب فلا بد له من دليل.
وبهذه الطريق يُعْلَم أيضاً أنه لم يوجب الوضوء من لَمْس النساء، ولا من النجاسات
الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم يَنقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أَمَر بذلك،
مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويُجْرَحون في الجهاد وغير
ذلك، وقد قُطِعَ عِرْق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد، ولم ينقل عنه مسلم
أنه أَمَرَ أصحابه بالتوضؤ من ذلك.
وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم أنه
أَمَرَ الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة
(الجماع) كما بُسِطَ في موضعه.
وأَمْرُه بالوضوء من مَسّ الذَّكَر إنما هو استحباب إما مطلقاً وإمّا إذا حَرّك
الشهوة.
وكذلك يُستَحب لِمَنْ لمس النساء فتحركت شهوته أن يتوضأ، وكذلك مَنْ تَفَكّر فتحركت
شهوته فانتشر، وكذلك مَنْ مَسّ الأمرد أو غيره فانتشر.
فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، وهذا مستحب لما في «السنن» عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار،
وإنما تُطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار، والوضوء يطفئهما، فهو يُطفئ حرارة
الغضب، والوضوء من هذا مستحب.
وكذلك أَمْره بالوضوء مما مسته النار أمر استحباب؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن،
فليتوضأ فإن النار تُطْفَأ بالماء، وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ، بل النصوص
تدل على أنه ليس بواجب، واستحباب الوضوء من أعدل الأقوال، من قول مَنْ يوجبه، وقول
مَنْ يراه منسوخاً، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.
وكذلك بهذه الطريق يُعْلَم أن بول ما يؤكل لحمه وروثه ليس بنجس، فإن هذا مما تعم به
البلوى، والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم، يقعدون ويُصَلّون في أمكنتها، وهي مملوءة من
أبعارها، فلو كانت بمنزلة المراحيض كانت تكون حشوشاً، وكان النبي صلى الله عليه
وسلم يأمرهم باجتنابها، وأن لا يُلَوّثوا أبدانهم وثيابهم بها، ولا يُصَلّون فيها.
فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يُصَلّون في
مرابض الغنم، وأَمَرَ بالصلاة في مرابض الغنم، ونهى عن الصلاة في معاطن الإبل؟!
فعُلِم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار بل كما أَمَر بالتوضؤ من لحوم الإبل، وقال في
الغنم: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ».
وقال: «إن الإبل خُلِقَت من جِنٍّ، وإن على ذِرْوة كل بعير شيطاناً».
وقال (عليه الصلاة والسلام): «الفخر والخُيَلاء في الفدّادين أصحاب الإبل، والسكينة
في أهل الغنم».
فلمّا كانت الإبل فيها من الشيطنة ما لا يحبه الله ورسوله أُمِرَ بالتوضؤ من لحمها،
فإن ذلك يُطْفئ تلك الشيطنة، ونَهى عن الصلاة في أعطانها لأنها مأوى الشياطين، كما
نهى عن الصلاة في الحمَّام لأنها مأوى الشياطين؛ فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحقّ بأن
تُجْتَنب الصلاة فيه، وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل الأرواح الخبيثة تُحب الأجسام
الخبيثة، ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين، والصلاة فيها أَوْلَى بالنهي
عن الصلاة في الحمَّام ومعاطن الإبل، والصلاة على الأرض النجسة، ولم يَرِد في
الحشوش نَصّ خاص؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى بيان؛
ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش ولا يُصَلي فيها، وكانوا ينتابون
البرية لقضاء حوائجهم قبل أن تُتَّخَذ الكُنُف في بيوتهم.
وإذا سمعوا نَهْيَه عن الصلاة في الحمَّام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة
في الحشوش أَوْلَى وأحرى، مع أنه قد رُوِي الحديث الذي فيه: النهي عن الصلاة في
المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، والحشوش، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، وظَهْر بيت
الله الحرام.
وفقهاء الحديث متنازعون فيه، وأصحاب أحمد فيه على قولين: منهم مَنْ يرى هذه من
مواضع النهي، ومنهم مَنْ يقول: لم يثبت هذا الحديث.
ولم أجد في كلام أحمد في ذلك إذناً ولا مَنْعاً، مع أنه قد كَرِه الصلاة في مواضع
العذاب، نَقَله عنه ابنه عبد الله؛ للحديث المسنَد في ذلك عن علي (رضي الله عنه)
الذي رواه أبو داود، وإنما نَصّ على الحشوش وأعطان الإبل والحمَّام، وهذه الثلاثة
هي التي ذكرها الخِرَقي وغيره.
والحُكم في ذلك عند مَنْ يقول به قد يُثبته بالقياس على موارد النص، وقد يثبته
بالحديث، ومَنْ فَرّق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق.
وأيضاً المنع قد يكون مَنْع كراهة وقد يكون مَنْع تحريم؛ فإذا كانت الأحكام التي
تعم بها البلوى لا بد أن يُبَيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولا بد
أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن
والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يُفَطّر لبَيّنه النبي صلى الله عليه
وسلم كما بَيّن الإفطار بغيره، فلمّا لم يُبَيّن ذلك عُلِمَ أنه من جنس الطيب
والبخور والدهن.
والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجساماً، والدهن يشربه البدن
ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم يُنْه
الصائم عن ذلك دل على جواز تطيبه وتبخره وادّهانه، وكذلك اكتحاله.
وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يُجْرَح أحدهم - إما في الجهاد، وإما
في غيره- مأمومةً وجائفةً، فلو كان هذا يُفَطّر لبَيّن لهم ذلك، فلمّا لم يَنْه
الصائم عن ذلك عُلِمَ أنه لم يجعله مُفَطّراً.
الوجه الثالث: إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحاً، وذلك إما
قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل
فيُعَدّى بها إلى الفرع، وإما أن يُعْلَم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في
الشرع، وهذا القياس هنا مُنْتَفٍ.
وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان
واصلاً إلى دماغٍ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى الجوف، ونحو ذلك
من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحُكم عند الله ورسوله،
ويقولون: إن الله ورسوله (عليه الصلاة والسلام) إنما جعلا الطعام والشراب مُفَطّراً
لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء
المأمومة والجائفة، وما يَصِل إلى الجوف من الكحل، ومن الحقنة والتقطير في الإحليل،
ونحو ذلك.
وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحُكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل: إن الله
ورسوله (عليه الصلاة والسلام) إنما جعلا هذا مفطراً لهذا قولاً بلا علم، وكان قوله:
(إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا) قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك
يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز.
ومَنْ اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مَناطُ الحُكم فهو بمنزلة مَنْ اعتقد صِحة
مذهب لم يكن صحيحاً، أو دلالة لفظ على معنى لم يُرِده الرسول (صلى الله عليه وسلم)،
وهذا اجتهاد يُثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولاً بحجة شرعية يجب على المسلم
اتباعها.