صفحة جديدة 2
قال: ولا أعلم خلافاً بين أهل العلم في أن مَنْ ذَرَعَه القيء فإنه لا قضاء عليه،
ولا في أن مَنْ استقاء عامداً فعليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة.
فقال عامة أهل العلم: ليس عليه غير القضاء.
وقال عطاء: عليه القضاء والكفارة.
وحُكِي عن الأوزاعي، وهو قول أبي ثور.
قلت: وهو مقتضى إحدى الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم، فإنه إذا
أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أَوْلَى، لكن ظاهر مذهبه أن الكفارة لا تجب بغير
الجماع، كقول الشافعي.
والذين لم يُثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى علته، وهو
انفراد عيسى بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه حفص بن غياث، والحديث
الأخير يشهد له- وهو: ما رواه أحمد، وأهل السُّنن كالترمذي- عن أبي الدرداء (رضي
الله عنه): أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فذكرتُ ذلك لثوبان (رضي الله
عنه) فقال: صدق، أنا صببتُ له وَضُوءاً.
لكن لفظ أحمد: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ» رواه أحمد عن حسين
المعلم.
قال الأثرم: قلت لأحمد: قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال: حسين المعلم يُجَوّده.
وقال الترمذي: حديث حسين أصح شيء في هذا الباب.
وهذا قد استُدِل به على وجوب الوضوء من القيء، ولا يدل على ذلك؛ فإنه إذا أراد
بالوضوء الوضوء الشرعي فليس فيه إلا أنه توضأ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل
يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع، فإذا قيل: إنه مستحب كان فيه عملٌ بالحديث.
وكذلك ما رُوِي عن بعض الصحابة (رضي الله عنهم) من الوضوء من الدم الخارج، ليس في
شيء منه دليل على الوجوب، بل يدل على الاستحباب.
وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك، كما قد بُسِط في موضعه، بل قد روى
الدارقطني وغيره عن أنس (رضي الله عنه) قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يتوضأ، ولم يزد على غَسْل محاجمه.
ورواه ابن الجوزي في «حجة المخالف» ولم يضعفه، وعادته الجَرح بما يمكن.
وأما الحديث الذي يُروى: «ثلاث لا تفطر: القيء، والحجامة، والاحتلام»، وفي لفظ: «لا
يُفطر مَنْ قاء، ولا مَنْ احتلم، ولا مَنْ احتجم» فهذا إسناده الثابت: ما رواه
الثوري وغيره، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أصحابه، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا رواه أبو داود، وهذا الرجل
لا يُعْرَف..
وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد (رضي الله
عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال.
قلت: روايته عن زيد من وجهين مرفوعا لا يخالف روايته المرسلة، بل يقويها، والحديث
ثابت عن زيد بن أسلم؛ لكن هذا فيه: «إذا ذَرَعه القيء».
ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مُرْسَلاً.
وقال يحيى بن معين: حديث زيد بن أسلم ليس بشيء، ولو قُدِّر صحته لكان المراد مَنْ
ذَرَعه القيء، فإنه قرنه بالاحتلام، ومَنْ احتلم بغير اختياره كالنائم لم يُفْطِر
باتفاق الناس.
وأمّا حديث الحجامة؛ فإمّا أن يكون منسوخاً، وإما أن يكون ناسخاً؛ لحديث ابن عباس
(رضي الله عنهما) أنه احتجم وهو مُحْرِم صائم أيضاً، ولعل فيه القيء إن كان
متناولاً للاستقاءة هو أيضاً منسوخ، وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر،
فإنه إذا تعارض نَصّان ناقل وباق على الاستصحاب فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ،
ونَسْخ أحدهما يُقَوّي نَسْخ قرينه.
وأما مَنْ استمنى فأنزل فإنه يُفطِر، ولفظ الاحتلام إنما يُطلَق على مَنْ احتلم في
منامه.
وقد ظن طائفة أن القياس أن لا يُفَطّر شيء من الخارج، وأن المستقيء إنما أفطر لأنه
مظنة رجوع بعض الطعام، وقالوا: إن فِطْر الحائض على خلاف القياس.
وقد بسطنا في الأصول أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح.
فإن قيل: قد ذكرتم أنّ مَنْ أفطر عامداً بغير عُذر كان فِطْره من الكبائر، وكذلك
مَنْ فَوّت صلاة النهار إلى الليل عامداً من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر،
وأنها ما بقيت تُقْبَل منه على أظهر قولي العلماء، كمَنْ فَوّت الجمعة، ورَمْي
الجمار، وغير ذلك من العبادات المؤقتة، وهذا قد أَمَرَه بالقضاء، وقد رُوِي في حديث
المجامع في رمضان أنه أمره بالقضاء.
قيل: هذا إنما أمره بالقضاء لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر، كالمريض يتداوى بالقيء،
أو يتقيأ لأنه أَكَلَ ما فيه شُبْهة، كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهن، وإذا كان
المتقيئ معذورا كان ما فعله جائزا، وصار من جملة المرضى الذين يقضون، ولم يكن من
أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر.
وأمّا أَمْره للمُجامع بالقضاء فضعيف، ضَعّفه غير واحد من الحُفّاظ، وقد ثَبَت هذا
الحديث من غير وجه في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، ومن حديث عائشة (رضي الله
عنهما)، ولم يذكر أحد أَمْره بالقضاء، ولو كان أَمَرَه بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم
وهو حُكم شرعي يجب بيانه، ولَمّا لم يأمره به دل على أن القضاء لم يبق مقبولاً منه،
وهذا يدل على أنه كان متعمداً للفطر، لم يكن ناسياً ولا جاهلاً.
والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويُذْكَر ثلاث روايات عنه؛
إحداها: لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، والأكثرين.
والثانية: عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك.
والثالثة: عليه الأمران، وهو المشهور عن أحمد.
والأول أظهر كما قد بُسِطَ في موضعه، فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسُّنة أنّ مَنْ
فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة مَنْ لم
يفعله، فلا يكون عليه إثم.
ومَنْ لا إثْم عليه لم يكن عاصياً، ولا مُرْتَكِباً لما نُهِي عنه، وحينئذ فيكون قد
فَعَل ما أُمِرَ به، ولم يفعل ما نُهِي عنه، ومثل هذا لا يُبْطِل عبادته، إنما
يُبْطِل العبادات إذا لم يفعل ما أُمِرَ به، أو فَعَل ما حُظِرَ عليه.
وَطَرْدُ هذا: أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسياً، ولا مُخطئاً، لا
الجماعِ ولا غيرِه، وهو أظهر قولي الشافعي.
وأمّا الكَفّارة والفدية فتلك وجبت؛ لأنها بدل الْمُتْلَف من جنس ما يجب ضمان
الْمُتْلَف بمثله كما لو أتلفه صبي، أو مجنون، أو نائم ضَمِنَه بذلك.
وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمُخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول
خطأً، والكفارة الواجبة بِقَتْلِه خطأ بِنَصّ القرآن وإجماع المسلمين.
وأمّا سائر المحظورات فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار، وقَصُّ الشارب، والترفه
المنافي للتفث، كالطيب واللباس، ولهذا كانت فديتها من جنس فدية المحظورات، ليست
بمنزلة الصيد المضمون بالبدل.
فأظهر الأقوال في الناسي والمُخطئ إذا فَعَل محظوراً أن لا يضمن من ذلك إلا الصيد.
وللناس فيه أقوال:
هذا أحدها، وهو قول أهل الظاهر.
والثاني: يضمن الجميع مع النسيان، كقول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره
القاضي وأصحابه.
والثالث: يُفَرَّق بين ما فيه إتلاف كقَتْل الصيد والحَلْق والتقليم، وما ليس فيه
إتلاف كالطِّيب واللباس، وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، واختارها
طائفة من أصحابه، وهذا القول أجود من غيره؛ لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس
والطيب، لا بقَتْل الصيد، هذا أجود.
والرابع: أن قَتْل الصيد خطأً لا يضمنه، وهو رواية عن أحمد، فخَرَّجُوا عليه الشعر
والظفر بطريق الأَوْلَى.
وكذلك طَرْدُ هذا: أنّ الصائم إذا أَكَلَ أو شَرِبَ أو جَامَع ناسياً أو مُخطئاً
فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف، ومنهم مَنْ قال: يُفْطِر الناسي
والمخطئ كمالك.
وقال أبو حنيفة: هذا هو القياس، لكن خَالَفَه لحديث أبي هريرة في الناسي.
ومنهم مَنْ قال: لا يُفْطِر الناسي، ويُفْطِر المُخطئ؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي
وأحمد؛
فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان.
وأمّا أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا: النسيان لا يُفَطّر لأنه لا يمكن الاحتراز منه،
بخلاف الخطأ فإنه يمكنه أن لا يُفْطِر حتى يتيقن غروب الشمس، وأن يمسك إذا شك في
طلوع الفجر.