صفحة جديدة 6
من لم تعزه التقوى فلا عز له
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تقوى الله هي سبيل المسلمين إلى العزة والكرامة، ولا عزة لهم في غيرها، ولا يخفى عليكم ما صار إليه المسلمون من ذل وهوان؛ لم يتقوا ربهم، فهانوا على عدوهم، وصاروا كالأيتام على موائد اللئام، ولا سبيل لهم إلى استعادة مجدهم وعزتهم إلا بتقوى الله، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت لهم مخاضة، فنزل عن بعيره وخلع موقيه فأمسكهما بيده، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا.
وفي بعض الروايات أن عمر كان يلبس ثوبًا مرقعًا وكان يتناوب مع غلامه الركوب، فلما وصل إلى القدس كانت النوبة لغلامه، فدخلها ماشيًا وغلامه راكب، قال عمر: (أوَّه لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما ابتغيتم العز في غيره يذلكم الله).
لما قدم الإمام الشافعي إلى مصر قال له محمد بن عبد الحكم: إذا أردت أن تسكن هذا البلد فليكن لك قوت سنة ومجلس من السلطان تتعزّز به، فقال له: يا أبا عبد الله، من لم تعزه التقوى فلا عزّ له، ولقد ولدت بغزة ورُبيت بالحجاز، وما عندنا قوت ليلة وما بتنا جياعًا قط.
تقوى الله هي وصيته سبحانه للأولين والآخرين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ [النساء:131]..
وذلك لأن تقوى الله هي الكلمة الجامعة لكل خير أمرنا به، هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وغضبه وقاية، ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَىٰ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحَا ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ﴾ [طه:81، 82]..
هذه الوقاية هي العمل الصالح وفعل الأوامر وترك النواهي.
تقوى الله هي خير زاد يتزود به الإنسان في رحلته إلى الدار الآخرة، ﴿يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـٰقِيهِ﴾ [الانشقاق:6]..
وقال سبحانه: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ﴾ [البقرة:197].
عرفها عليٌّ رضي الله عنه فقال: (هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل والرضا بالقليل).
هي الثمرة المقصودة من جميع العبادات،
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]..
﴿لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ [الحج:37]..
﴿يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:21].
ولذلك لا يقبل الله شيئًا من العمل من غير أهلها قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة:27]..
وفي صيغة الحصر هذه وعيد شديد، فمن لم يكن من المتقين فنصيبه من العمل الصالح الجوع والعطش والتعب والنصب، ثم يكون عمله مردودًا عليه؛ لأن الله تعالى إنما أمرنا بهذه العبادات لتورثنا التقوى، فمتى لم تورث التقوى فصاحبها على خطر عظيم، فاتقوا الله عباد الله.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل يقول له: "أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين".
قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوي الناس وهو عليل
تقوى الله هي خير لباس يتجمل به الإنسان للقاء الله عز وجل، قال سبحانه: ﴿يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف:26].
إذا المرء لم يلبس لباسًا من التقى تقلب عريانًا ولو كان كاسيا.
وخير لباس المرء طاعـة ربـه ولا خير فيمن كان لله عاصيا.
وكتب : وليد بن إدريس المنيسي
|