أسانيد القراءات تنقسم حالياً إلى أربعة أجزاء :
الجزء الأول : من المعاصرين إلى ابن الجزري ، وهذا متواتر بلا شك فأسانيد العالم الإسلامي إلى ابن الجزري اليوم بالآلاف ، ولكن يظل لدينا إشكال وهو أن ابن الجزري شخص واحد ، وجميع أسانيد القراءات العشرة المتصلة بالسماع والعرض اليوم تلتقي عند ابن الجزري ثم يبدأ تفرعها من عنده أيضاً فكيف تكون متواترة في طبقة ابن الجزري ؟ وحل هذا الإشكال من وجهين :
1)أن تلاميذ ابن الجزري وهم كثيرون قد قرؤوا بالقراءات العشر على غير ابن الجزري ، كما هو مدون في تراجمهم ، ولو أن ابن الجزري شذ بشيء غير معروف عن غيره لما قبلوه منه ، فالإسناد وإن اكتفي فيه تخفيفا بذكر ابن الجزري لشهرته وإمامته وعلو سنده إلا أنه كان معه معاصرون له كثر قرؤوا على شيوخه بما قرأ هو به ، وهؤلاء المعاصرون لهم تلاميذ كثيرون تتفرع عنهم أسانيد عديدة تبلغ حد التواتر .
2)أن كتب القراءات المسندة لها أسانيد عديدة مبثوثة في الإجازات القرآنية والأثبات الحديثية تبلغ حد التواتر من غير طريق ابن الجزري ، وهذه الأسانيد منها ما هو متصل بالتلاوة كأسانيد المغاربة التي تصل إلى الشاطبي أو الداني أو ابن نفيس من غير مرور بابن الجزري ومنها ما هو بالإجازة المجردة عن السماع إلا أنها مع انضمامها إلى الإسناد المتصل بالسماع المار بابن الجزري تزيده قوة إلى قوته .
الجزء الثاني : من ابن الجزري إلى أصحاب الكتب المسندة في القراءات العشر كلها أو ست أوسبع أو ثماني قراءات منها أو أقل أو أكثر ، مثل التيسير للداني والكامل للهذلي والكفاية لسبط الخياط والروضة لابن المعدل والمصباح للشهرزوري وأمثالها ، وهذا القسم متواتر أيضاً على أساس أن ابن الجزري له أكثر من ألف إسناد في القراءات ، وهذه الأسانيد ترجع إلى أكثر من خمسين كتابا مسندا في القراءات العشر كل كتاب منها قرأ ابن الجزري بما تضمنه من القراءات على العشرات من شيوخه بأسانيدهم إلى مؤلفي هذه الكتب ، وتفصيل ذلك موجود في كتاب النشر في القراءات العشر.
الجزء الثالث : من مؤلفي الكتب المسندة إلى الرواة العشرين عن القراء العشرة ( كل قارئ من العشرة عنه راويان ) وهذا متواتر أيضاً ، لأن كتب القراءات المسندة كما ذكرنا أكثر من خمسين كتابا ، ولكل كتاب منها عدة أسانيد إلى كل راو من الرواة العشرين ، تصل هذه الأسانيد إلى حد التواتر كما يستفاد من الكتب نفسها ، وقد حقق اليوم الكثير من هذه الكتب التي هي أصول النشر ، ووجد لها العديد من النسخ المخطوطة النفيسة ، وهذه الكتب هي الأصول التي استقى ابن الجزري منها مادته في النشر .
الجزء الرابع : من الرواة العشرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الجزء منه ما توافق فيه الرواة العشرون أو مجموعة منهم يبلغون حد التواتر فهذا لا إشكال فيه ، وأكثر القرآن بحمد الله لا ينفرد فيه راو بل يوافقه غيره من الرواة العشرين عن القراء العشرة ، ومنه ما انفرد فيه راو أو عدد من الرواة لا يبلغ حد التواتر وهو محل الإشكال ، لكن يمكن أن يقال إن أسانيد القراءات العشر وإن كانت آحادية فإن كل واحد من القراء العشرة لم يكن منفردا بما يقرأ به بل شاركه فيه أهل بلده ، ولكن انقطعت أسانيدهم ولم يعتن بنقلها ، اكتفاء بالبعض عن الكل، فابن عامر مثلا قرأ على أبي الدرداء رضي الله عنه الذي قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن لم ينفرد ابن عامر برواية قراءة أبي الدرداء ، فقد قرأ على أبي الدرداء رضي الله عنه ألف وخمسمائة شخص ، ولكن لم تصلنا أسانيدهم ، وكذلك أبو الدرداء رضي الله عنه لم ينفرد بالقراءة التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بل شاركه غيره من الصحابة، فإذا قصد بالتواتر هذا المعنى فهذا صحيح ، وأما إذا قصد بالتواتر أن كل كلمة انفرد بها واحد من القراء السبعة أو العشرة أو أحد الرواة عنهم قد رواها جمع غفير عن جمع غفير حتى ينتهي الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا قد لا نستطيع أن نأتي عليه بدليل سوى أن نأتي بالأسانيد المتواترة إلى القارئ من القراء العشرة ، ثم بعد ذلك نقول إن القارئ لم يكن منفردا بهذه القراءة في بلده بل كان معاصروه من أهل بلده ممن يبلغون حد التواتر يقرؤون به ويروونه ولو أنه انفرد عن أهل بلده بحرف لما اختار أئمة القراءات قراءته ، فأحياناً ينفرد راو من هؤلاء الرواة العشرين بحرف كانفراد حفص عن عاصم مثلا بقراءة قوله تعالى ( سوف يؤتيهم أجورهم ) ( النساء : 152) بالياء ، بينما الرواة التسعة عشر الباقون قرؤوا هذا الحرف بالنون ( سوف نؤتيهم أجورهم ) ، أو ينفرد قارئ من العشرة بحرف كانفراد يعقوب بضم هاء ( نؤتيهم ) في الآية المذكورة ( النساء : 152) ، أو ينفرد راو أو قارئ بأصل من الأصول كانفراد البزي عن ابن كثير بتشديد التاءات في الفعل المضارع المحذوف إحدى التاءين تخفيفاً ، نحو ( وقبائل لتَّعارفوا ، فتَّفرق بكم عن سبيله ، ولا تَّجسسوا ... ) وأمثال ذلك ، فهذا يمكن اعتباره متواتراً إذا نظرنا إلى أنه لم يكن الراوي أو القارئ منفردا بهذه القراءة في بلده بل كان معاصروه من أهل بلده ممن يبلغون حد التواتر يقرؤون به ويروونه ولو أنه انفرد عن أهل بلده بحرف لما اختار أئمة القراءات قراءته أو روايته وعدوها من السبع أو العشر ، كما ذكرنا ، فإنهم لم يختاروا قراءة ابن محيصن المكي ، مع أنه شيخ ابن كثير ، لأنه ينفرد عن أهل بلده بأشياء ، واختاروا قراءة ابن كثير لأنه يقرأ بالقراءة المعروفة عن أهل مكة في زمنه ، فبهذا الاعتبار يمكن أن نقول كل حرف في القراءات العشر متواتر بهذا المعنى ، على أساس أن كل راو أو قارئ كان معه معاصرون له يروون مثل ما روى ويقرؤون بمثل ما يقرأ ، لكن لو أردنا أن نطبق مصطلح التواتر تطبيقا حرفياً بأن نأتي مثلاً بعشرة أسانيد ( إذا قلنا إن أقل التواتر عشرة ، أو سبعين إسنادا إذا قلنا أقل التواتر سبعين أو غير ذلك على حسب اختلاف الأقوال في أدنى التواتر ) إلى عشرة رواة معاصرين لحفص رووا عن عاصم أنه قرأ ( سوف يؤتيهم ) بالياء ، ثم عشرة معاصرين لعاصم رووا عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ( سوف يؤتيهم ) بالياء ، ثم عشرة معاصرين لأبي عبد الرحمن السلمي رووا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قرأ ( سوف يؤتيهم ) بالياء ، ثم عشرة من الصحابة رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ( سوف يؤتيهم ) بالياء ، ونحو ذلك في كل نظير ، فهذا لا يوجد ، وهذا هو ما دعا كثيرا من المحققين إلى القول بأنه يكفي صحة الإسناد لإثبات القراءة ، ولا يشترط التواتر .
قال الشوكاني: "وقد ادُّعِيَ تواتر كل واحدة من القراءات السبع ، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وابن عامر ، وادعي أيضا تواتر القراءات العشر ، وهي هذه مع قراءة يعقوب وأبي جعفر وخلف ، وليس على ذلك أثارة من علم فإن هذه القراءات كل واحدة منها منقولة نقلا آحاديا ، كما يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء لقراءاتهم ، وقد نقل جماعة من القراء الإجماع على أن في هذه القراءات ما هو متواتر وفيها ما هو آحاد ، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحدة من السبع فضلا عن العشر ، وإنما هو قول قاله بعض أهل الأصول ، وأهل الفن أخبر بفنهم ." اهـ
فالذي عليه المحققون أنه لايشترط التواتر لأنه لادليل على اشتراطه ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث آحاد الصحابة لتعليم القرآن ، وكانوا يسمعون الآية من الصحابي فيعملون بها ويقرؤون بها في صلواتهم ، قال ابن الجزري :" وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لايثبت به قرآن ، وهذا مما لايخفى ما فيه ، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم ، ولقد كنت قبل أجنح إلى هذا ثم ظهر فساده " اهـ
واستكمالا للبحث فإني أذكر هنا أسانيد كل قارئ من العشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث يتبين من ذكر هذه الأسانيد أنه ما من قراءة من العشر إلا ولها من الأسانيد الثابتة ما تطمئن إليه النفس وتقوم به الحجة .
أسانيد نافع :
قرأ نافع القرآن على سبعين من التابعين ، منهم شيبة بن نصاح الذي سمعه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأ شيبة على مولاه عبد الله بن عياش المخزومي ، و قرأ نافع أيضا على أبي جعفر والأعرج اللذين قرآ على أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما ، وقرأ أبو هريرة وابن عباس وعبد الله بن عياش المخزومي رضي الله عنهم على أبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ، وقرأ عمر وأبي وزيد رضي الله عنهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن رب العزة جل شأنه .
أسانيد ابن كثير :
قرأ ابن كثير على عبد الله بن السائب ومجاهد ودرباس ، وقرأ ابن السائب على عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما ، وقرأ مجاهد ودرباس على ابن عباس عن أبي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، وقرأ عمر وأبي وزيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أسانيد أبي عمرو :
قرأ أبوعمرو على أبي العالية و يحيى بن يعمر ومجاهد والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم ، وقرأ أبو العالية على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقرأ يحيى بن يعمر على أبي الأسود الدؤلي الذي قرأ على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقرأ مجاهد على ابن عباس عن أبي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، وقرأ عمر وعثمان وعلي وأبي وزيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أسانيد ابن عامر :
هو أعلى القراء العشرة إسنادا ، لأنه قرأ على أبي الدرداء رضي الله عنه الذي قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا واسطة واحدة ، كما قرأ أيضا على المغيرة بن شهاب المخزومي الذي قرأ على عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقرأ عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أسانيد عاصم :
قرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وسعد ابن إلياس الشيباني ، وقرأ زر بن حبيش وسعد بن إلياس الشيباني على ابن مسعود رضي الله عنه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، وقرأ عثمان وعلي وابن مسعود وأبي وزيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أسانيد حمزة :
منها أن حمزة قرأ على جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين رضي الله عنه عن أبيه علي رضي الله عنه الذي قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قرأ على حمران وأبي إسحاق اللذين قرآ على أبي عبد الرحمن السلمي وأبي الأسود الدؤلي اللذين قرآ على عثمان وعلي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قرأ أيضا على الأعمش الذي قرأ على يحيى بن وثاب عن علقمة والأسود وعبيدة السلماني عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقرأ ابن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أسانيد الكسائي :
منها أن الكسائي قرأ على حمزة عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين رضي الله عنه عن أبيه علي رضي الله عنه الذي قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قرأ على عيسى بن عمر عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي وأبي الأسود الدؤلي اللذين قرآ على عثمان وعلي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قرأ عيسى أيضا على الأعمش الذي قرأ على يحيى بن وثاب عن علقمة والأسود وعبيدة السلماني عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقرأ ابن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قرأ الكسائي على ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسانيد أبي جعفر :
قرأ أبو جعفر على أبي هريرة وابن عباس وابن عياش المخزومي رضي الله عنهم ، وقرأ هؤلاء الثلاثة على أبي بن كعب وزيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسانيده يعقوب :
قرأ يعقوب على أبي الأشهب العطاردي الذي قرأ على أبي رجاء العطاردي الذي قرأ على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وقرأ أبو موسى الأشعري رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن الجزري : هذا إسناد في غاية العلو والصحة ، وله أسانيد أخر.
أسانيد خلف:
منها أن خلفاً قرأ على يعقوب الأعشى عن شعبة عن عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقرأ ابن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرأ خلف على سليم عن حمزة عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين رضي الله عنه عن أبيه علي رضي الله عنه الذي قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما روى عن الكسائي عن عيسى بن عمر عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي وأبي الأسود الدؤلي اللذين قرآ على عثمان وعلي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وبالله التوفيق
|