صفحة جديدة 4
باب في أحكام القصاص
أجمع العلماء على مشروعية
القصاص في القتل العمد إذا توفرت شروطه؛ لقوله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾..
وقوله تعالى:
﴿وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾
وهذا في شريعة التوراة، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه،
وقال تعالى:
﴿وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾..
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة؛ لأن الرجل إذا علم
أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر، كف عن القتل، وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه،
فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية، وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من
الفصاحة رفيع؛ فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع
الناس عن قتل بعضهم بعضا؛ إبقاء على أنفسهم، واستدامة لحياتهم، وجعل هذا الخطاب
موجها إلى أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب، ويتحامون ما فيه الضرر
الآجل، وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة؛ فإنه لا ينظر عند ثورة غضبه وغليان
مراجل طيشه إلى عاقبة، ولا يفكر في أمر مستقبل؛ كما قال بعض فتاكهم:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا
علي قضاء الله ما كان جالبا
ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي
شرعه لعباده بقوله:
﴿لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾ أي: تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص، فيكون ذلك سببا
للتقوى... انتهى.
وجاءت السنة النبوية بأن ولي
القصاص يخير بين استيفائه، وبين العفو إلى أخذ الدية، أو العفو مجانا، وهو أفضل؛
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
«من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين: إما أن يودى، وإما أن يقاد» رواه الجماعة إلا الترمذي،
وقال الله تعالى:
﴿فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ﴾..
فدلت الآية الكريمة والحديث على
أن الولي يخير بين القصاص والدية، فإن شاء؛ اقتص، وإن شاء؛ أخذ الدية، وعفوه مجانا
أفضل؛ لقوله تعالى:
﴿وَأَنْ
تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
ولحديث أبي هريرة:
«ما
عفا رجل عن مظلمة؛ إلا زاده الله بها عزا»
رواه أحمد ومسلم والترمذي.
فالعفو عن القصاص أفضل ما لم
يؤد ذلك إلى مفسدة؛ فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العفو لا يصلح في
قتل الغيلة؛ لتعذر الاحتراز منه؛ كالقتل مكابرة، وذكر القاضي وجها أن قاتل الأئمة
يقتل حدا لأن فساده عام، وذكر العلامة ابن القيم على قصة العرنيين: أن قتل الغيلة
يوجب قتل القاتل حدا؛ فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهو مذهب أهل
المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، واختيار الشيخ، وأفتى به رحمه الله... انتهى.
ولا يستحق ولي القتيل القصاص
إلا بتوفر شروط أربعة:
أحدها: عصمة المقتول؛ بأن لا يكون مهدر الدم، لأن القصاص شرع لحقن الدماء،
ومهدر الدم غير محقون، فلو قتل مسلم كافرا حربيا أو مرتدا قبل توبته أو قتل زانيا؛
لم يضمنه بقصاص، ولا دية، لكنه يعزر لافتياته على الحاكم.
الثاني: أن يكون القاتل بالغا عاقلا، لأن القصاص عقوبة مغلظة، لا يجوز
إيقاعها على الصغير والمجنون؛ لعدم وجرد القصد منهما، أو لأنه ليس لهما مقصود صحيح،
ولقوله صلى الله عليه وسلم:
«رفع
القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق»..
قال الإمام موفق الدين ابن
قدامة: لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون، وكذلك
كل زائل العقل بسبب يعذر فيه؛ كالنائم والمغمى عليه.
الشرط الثالث: المكافأة بين المقتول وقاتله حال جنايته؛ بأن يساويه في الدين
والحرية والرق؛ فلا يكون القاتل أفضل من المقتول بسلام أو حرية:
- فلا يقتل مسلم بكافر؛ لقوله
صلى الله عليه وسلم:
«ولا
يقتل مسلم بكافر» رواه البخاري وأبو داود.
- ولا يقتل حر بعبد؛ لما رواه
أحمد عن علي رضي الله عنه:
«من السنة أن لا يقتل حر بعبد».
ولأن المجني عليه إذا لم يكن
مساويا للقاتل فيما ذكر؛ كان أخذه به أخذا لأكثر من الحق.
ولا يؤثر التفاضل بين الجاني
والمجني عليه في غير ما ذكر، فيقتل الجميل بالدميم، والشريف بضده، والكبير بالصغير،
ويقتل الذكر بالأنثى، والصحيح بالمجنون والمعتوه؛
لعموم قوله تعالى:
﴿وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾..
وقوله تعالى:
﴿الْحُرُّ
بِالْحُرِّ﴾..
الشرط الرابع: عدم الولادة، بأن لا يكون المقتول ولدا للقاتل ولا لابنه وإن سفل،
ولا لبنته وإن سفلت؛ فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل؛
لقوله صلى الله عليه وسلم:
«لا
يقتل والد بولده»..
قال ابن عبد البر: هو حديث
مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم... انتهى.
وبهذا الحديث ونحوه تخص
العمومات الواردة بوجوب القصاص، وهو قول جمهور أهل العلم.
ويقتل الولد بكل من الأبوين؛
لعموم قوله تعالى:
﴿كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ وإنما خص منه الوالد إذا قتل ولده بالدليل.
فإذا توافرت هذه الشروط
الأربعة؛ استحق أولياء القتيل القصاص.
وتشريع القصاص فيه رحمة بالناس
وحفظ لدمائهم كما قال تعالى:
﴿وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾..
فتبا لقوم يقولون: إن القصاص
وحشية وقسوة، وهؤلاء لم ينظروا إلى وحشية الجاني حين إقدامه على قتل البريء،
وإقدامه على بث الرعب في البلد، وإقدامه على ترميل النساء وتيتيم الأطفال وهدم
البيوت، هؤلاء يرحمون المعتدي ولا يرحمون البريء؛ فتبا لعقولهم، وتبا لقصورهم،
﴿أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ﴾..
والقصاص هو فعل مجني عليه أو
فعل وليه بجان مثل فعله أو شبهه، وحكمته التشفي وبرد حرارة الغيظ؛ فقد شرع الله
القصاص زجرا عن العدوان، واستدراكا لما في النفوس، وإذاقة للجاني ما أذاقه المجني
عليه، وفيه بقاء وحياة النوع الإنساني.
وكانت الجاهلية تبالغ في
الانتقام، وتأخذ في الجريمة غير المجرم، وهذا جور لا يحصل به المقصود، بل هو زيادة
فتنة وإشاطة للدماء، وقد جاء دين الإسلام وشريعته الكاملة بتشريع القصاص وإيقاع
العقاب بالجاني وحده؛ فحصل بذلك العدل والرحمة وحقن الدماء.