صفحة جديدة 3
وأما قتل الخطأ؛ فقد عرفه
الفقهاء بقولهم: وهو أن يفعل ما له فعله؛ مثل
أن يرمي صيدا أو هدفا، فيصيب آدميا معصوما لم يقصده، فيقتله أو يقتل مسلما في صف
كفار يظنه كافرا.
وعمد الصبي والمجنون يجري مجرى الخطأ، لأنهما ليس لهما قصد؛ فهما كالمكلف المخطئ.
ويجري مجرى الخطأ أيضا القتل
بالتسبب، كما لو حفر بئرا أو حفرة في طريق، أو أوقف فيه سيارة، فتلف بسبب ذلك إنسان
وجب بالقتل الخطأ الكفارة في مال القاتل، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد الرقبة،
أو وجدها ولم يقدر على ثمنها؛ صام شهرين متتابعين، وتجب الدية على عاقلته، وهم ذكور
عصابته.
ومن قتل مسلما في صف كفار يظنه كافرا فإنه لا يجب فيه إلا الكفارة فقط؛ لقوله
تعالى:
«وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا»..
فجعل قتل الخطأ على قسمين:
-
قسم فيه الكفارة
على القاتل والدية على عاقلته،
وهو قتل المؤمن خطأ في غير صف الكفار، وفيما إذا كان القتيل من قوم بيننا وبينهم
عهد.
-
وقسم تجب فيه الدية فقط،
وهو قتل المؤمن بين الكفار يظنه القاتل كافرا.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله
في فتح القدير:
﴿فَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: فإن كان المقتول من قوم عدو لكم، وهم الكفار الحربيون، وهذه
مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم، ثم أسلم ولم
يهاجر، وهم يظنون أنه لم يسلم، وأنه باق على دين قومه؛ فلا دية على قاتله، بل عليه
تحرير رقبة مؤمنة
واختلفوا في وجه سقوط الدية؛
فقيل: وجهه أن أولياء القتيل
كفار، لا حق لهم في الدية،
وقيل: وجهه أن هذا الذي آمن
ولم يهاجر حرمته قليلة؛ لقول الله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾
وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال... انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: هذا في المسلم الذي هو بين الكفار معذور
كالأسير، والمسلم الذي لا تمكنه الهجرة والخروج من صفهم، فأما الذي يقف في صف
قتالهم باختياره؛ فلا يضمن بحال؛ لأنه عرض نفسه للتلف بلا عذر.
والدليل على وجوب دية قتل الخطأ على عاقلة القاتل حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
«قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو
أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن ميراثها لزوجها وبنتيها، وأن العقل على عصبتها» متفق عليه.
فدل الحديث على أن دية الخطأ
على العاقلة، وقد أجمعوا على ذلك.
والحكمة في ذلك - والله أعلم -
أن إيجاب الدية في مال المخطئ فيه ضرر عظيم من غير ذنب تعمده، والخطأ يكثر وقوعه؛
ففي تحميله ضمان خطئه إجحاف بماله، ولا بد من إيجاب بدل للمقتول؛ لأنه نفس محترمة،
وفي إهدار دمه إضرار بورثته، لا سيما عائلته، فالشارع الحكيم أوجب على من عليهم
موالاة القاتل ونصرته أن يعينوه على ذلك، وذلك كإيجاب النفقات، وفكاك الأسير، ولأن
العاقلة يرثون المعقول عنه لو مات في الجملة؛ فهم يتحملون عنه جنايته الخطأ من
قبيل: الغنم بالغرم.
وحمل القاتل الكفارة لأمور:
أولا: احترام النفس الذاهبة.
ثانيا: لكون القتل لا يخلو من تفريطه.
ثالثا: لئلا يخلو القاتل عن تحمل شيء، حيث لم يحمل من الدية.
فكان في جعل الدية على العاقلة
والكفارة على القاتل عدة حكم ومصالح، فسبحان الحكيم العليم، الذي شرع للناس ما
يصلحهم وينفعهم في دينهم ودنياهم.
ولا يدخل في العاقلة الرقيق
والفقير والصغير والمجنون والأنثى والمخالف لدين الجاني؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل
النصرة والمواساة.
وتؤجل دية الخطأ على العاقلة
ثلاث سنين، ويجتهد الحاكم في تحميل كل منهم ما يستطيع، ويبدأ بالأقرب فالأقرب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله: لا تؤجل الدية على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك... انتهى.