صفحة جديدة 5
وقد سبق بيان شرط وجوب القصاص،
لكن تلك الشروط ولو توفرت ووجب القصاص؛ فإنه لا يجوز تنفيذه؛ إلا بعد توفر شروط
أخرى ذكرها الفقهاء رحمهم الله، وسموها:
شروط استيفاء القصاص وهي ثلاثة
شروط:
الشرط الأول: أن يكون مستحق القصاص مكلفا؛ أي: بالغا عاقلا، فإن كان مستحق
القصاص أو بعض مستحقيه صبيا أو مجنونا؛ لم يستوفه لهما وليهما؛ لأن القصاص لما فيه
من التشفي والانتقام، ولا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره؛ فيجب الانتظار في تنفيذ
القصاص، ويحبس الجاني إلى حين بلوغ الصغير وإفاقة المجنون من مستحقيه؛ لأن معاوية
حبس هدبة بن خشرم في قصاص، حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة، فلم ينكر،
فكان إجماعا من الصحابة الذين في عصر معاوية.
فإن احتاج الصغير أو المجنون من
أولياء القصاص إلى نفقة؛ فلولي المجنون فقط العفو إلى الدية؛ لأن المجنون لا يدري
متى يزول بخلاف الصبي.
الشرط الثاني: اتفاق الأولياء والمشتركين في القصاص على استيفائه، وليس لبعضهم أن
ينفرد به دون البعض الآخر، لأن الاستيفاء حق مشترك، لا يمكن تبعيضه، فإذا استوفى
بعضهم؛ كان مستوفيا لحق غيره بغير إذنه، ولا ولاية عليه.
وإن كان من بقي من الشركاء في
استحقاق القصاص غائبا أو صغيرا أو مجنونا، انتظر قدوم الغائب وبلوغ. الصغير وعقل
المجنون منهم.
ومن مات من مستحقي القصاص؛ قام
وارثه مقامه.
وإن عفا بعض المشتركين في
استحقاق القصاص؛ سقط القصاص.
- 380- ويشترك في استحقاق
القصاص جميع الورثة بالنسب والسبب: الرجال والنساء، الكبار والصغار، وقال بعض
العلماء:
إن العفو يختص بالعصبة فقط، وهو
قول الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
الشرط الثالث: أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى إلى غير الجاني؛ لقوله تعالى:
﴿وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾..
فإذا أفضى القصاص إلى التعدي؛
فهو إسراف، وقد دلت الآية الكريمة على المنع منه، فإذا وجب القصاص على حامل أو من
حملت بعد وجوب القصاص عليها؛ لم تقتل حتى تضع ولدا؛ لأن قتلها يتعدى إلى الجنين،
وهو بريء،
وقد قال الله تعالى:
﴿وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
ثم بعد وضعه:
إن وجد من يرضعه؛ أعطي لمن
يرضعه، وقتلت: لزوال المانع من القصاص، لقيام غيرها مقامها في إرضاع الولد، وإن لم
يوجد من يرضعه؛ تركت حتى تفطمه لحولين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«إذا
قتلت المرأة عمدا، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها،
وإذا زنت؛ لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها» رواه ابن ماجه..
ولقوله صلى الله عليه وسلم
للمرأة المقرة بالزنا:
«ارجعي حتى تضعي ما في بطنك»..
ثم قال لها:
«ارجعي حتى ترضعيه»..
فدل الحديثان والآية على تأخير
القصاص من أجل الحمل، وهو إجماع، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة وعدالتها، حيث راعت
حق الأجنة في البطون؛ فلم تجز إلحاق الضرر بهم، وراعت حق الأطفال والضعفة، فدفعت
عنهم الضرر، وكفلت لهم ما يبقي عليهم حياتهم؛ فلله الحمد على هذه الشريعة السمحاء
الكاملة الشاملة لمصالح العباد.
وإذا أريد تنفيذ القصاص؛ فلا بد
أن يتم تنفيذه بإشراف الإمام أو نائبه؛ ليمنع الجور في تنفيذه، ويلزم بالوجه الشرعي
في ذلك.
ويشترط في الآلة التي ينفذ بها
القصاص أن تكون ماضية؛ كسيف وسكين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«إذا قتلتم؛ فأحسنوا القتلة»..
ويمنع استيفاء القصاص بآلة
كالة؛ لأن ذلك إسراف في القتل.
ثم إن كان الولي يحسن الاستيفاء
على الوجه الشرعي، وإلا؛ أمره الحاكم أن يوكل من يقتص له.
والصحيح من قولي العلماء أنه
يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه؛ لقوله تعالى:
﴿وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾..
وقوله تعالى:
﴿فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾..
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر
برض رأس يهودي لرضه رأس جارية من الأنصار.
قال الإمام ابن القيم رحمه
الله: والكتاب والميزان على أنه يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه، كما فعل صلى
الله عليه وسلم، وقد اتفق على ذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة... انتهى.
فعلى هذا؛ لو قطع يديه، ثم
قتله؛ فعل به ذلك، وإن قتله بحجر أو غرقه أو غير ذلك؛ فعل به مثل ما فعل، وإن أراد
ولي القصاص أن يقتص على ضرب عنقه بالسيف؛ فله ذلك، وهو أفضل، وإن قتله بمحرم؛ تعين
قتله بالسيف، ومثل قتل السيف في الوقت الحاضر قتله بإطلاق الرصاص عليه ممن يحسن
الرمي.
باب في القصاص في الأطراف
القصاص في الأطراف والجروح ثابت
بالكتاب والسنة والإجماع:
- قال الله تعالى:
﴿وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾..
- وفي الصحيحين في قصة كسر
ثنية الربيع قال صلى الله عليه وسلم:
«كتاب
الله القصاص»..
فمن أقيد بأحد في النفس؛ أقيد
به في الطرف والجروح إذا توفرت شروط القصاص السابقة، وهي: العصمة، والتكليف،
والمكافأة، وعدم الولادة، وذلك بأن يكون المجني عليه معصوما، والجاني مكلفا، ويكون
المجني عليه مكافئا للجاني في الحرية والرق، ويكون الجاني غير والد للمجني عليه،
ومن لا يقاد بأحد بالنفس؛ لا يقاد به في الطرف والجروح، هذه هي القاعدة في هذا
الباب.
وموجب القصاص في الأطراف
والجروح هو موجب القصاص في النفس، وهو العمد المحض؛ فلا قود في الخطأ ولا في شبه
العمد، ويجري القصاص في الأطراف، فتؤخذ العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن
بالأذن، واليد باليد، والرجل بالرجل؛ اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، من كل ما
ذكر، ويكسر سن الجاني بسن المجني عليه المماثلة لها، ويؤخذ الجفن بالجفن، الأعلى
بالأعلى، والأسفل بالأسفل، وتؤخذ الشفة بالشفة؛ العليا بالعليا، والسفلى بالسلفي؛
لقوله تعالى:
﴿وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ﴾ ولأن كلا من الجفن والشفة له
حد ينتهي إليه، وتؤخذ الإصبع بالإصبع التي تماثلها في موضعها وفي اسمها، وتؤخذ الكف
بالكف المماثلة؛ اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى، ويؤخذ الرفق بمثله؛ الأيمن
بالأيمن، والأيسر بالأيسر؛ للمماثلة فيهما، ويؤخذ الذكر بالذكر، لأن له حدا ينتهي
إليه، ويمكن القصاص فيه من غير حيف؛
لعموم قوله تعالى:
﴿وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ﴾..
ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة
شروط
الشرط الأول: الأمن من الحيف، وذلك بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه،
فإن لم يكن كذلك، لم يجز القصاص، فلا قصاص في جراحة لا تنتهي إلى حد؛ كالجائفة، وهي
التي تصل إلى باطن الجوف؛ لأنها ليس لها حد ينتهي القطع إليه، ولا قصاص في كسر عظم
غير سن؛ ككسر الساق والفخذ والذراع؛ لعدم إمكان المماثلة، أما كسر السن؛ فيجري فيه
القصاص؛ بأن يبرد سن الجاني حتى يؤخذ منه قدر ما كسر من سن المجني عليه.
الشرط الثاني: التماثل بين عضوي الجاني والمجني عليه في الاسم والموضع؛ فلا تؤخذ
يمين بيسار ولا يسار بيمين من الأيدي والأرجل والأعين والآذان ونحوها، لأن كل واحد
منها يختص باسم، وله منفعة خاصة؛ فلا تماثل، ولا تؤخذ خنصر ببنصر من الأصابع،
للاختلاف في الاسم، ولا يؤخذ عضو أصلي بعضو زائد.
الشرط الثالث: استواء العضوين من الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال، فلا يؤخذ
يد أو رجل صحيحة بيد أو رجل شلاء، ولا تؤخذ يد أو رجل كاملة الأصابع أو الأظفار
بناقصتها، ولا تؤخذ عين صحيحة بعين قائمة، وهي التي بياضها وسوادها صافيان غير أنها
لا تبصر؛ لعدم التساوي، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس؛ لنقصه، ويؤخذ العضو الناقص
بالعضو الكامل، فتؤخذ الشلاء بالصحيحة، وناقصة الأصابع بكاملة الأصابع، لأن المعيب
من ذلك كالصحيح في الخلقة، وإنما نقص في الصفة، ولأن المقتص يأخذ بعض حقه؛ فلا حيف،
وإن شاء أخذ الدية بدل القصاص.