صفحة جديدة 19
[فصل]
583 - وأما القسم الثالث مما يسمى:
«توسلا»
فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يحتج به أهل العلم -
كما تقدم بسط الكلام على ذلك - وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين أو
السؤال بأنفسهم، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً
ثابتاً لا في الإقسام أو السؤال به، ولا في الإقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين،
وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه، فتكون
مسألة نزاع كما تقدم بيانه.
584 - فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله
ورسوله، ويبدي كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع، وليس هذا من مسائل العقوبات
بإجماع المسلمين، بل المعاقب على ذلك معتدٍ جاهل ظالم، فإن القائل بهذا قد قال ما
قالت العلماء، والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي صلى الله عليه وسلم
ولا عن الصحابة.
585 - وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله
لا بالأنبياء ولا بغيرهم كما سبق بسط الكلام في تقرير ذلك.
586 - وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز
لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا نذر شرك لا يوفى به.
587 - وكذلك الحلف بالمخلوقات لا ينعقد به
اليمين، ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينعقد يمينه كما
تقدم ذكره، ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد
في إحدى الروايتين، بل نهى عن الحلف بهذه اليمين، فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل
ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله؟.
588 - وأما السؤال به من غير إقسام به فهذا
أيضاً مما منع منه غير واحد من العلماء، والسنن الصحيحة عن النبي صلى الله عليه
وسلم وخلفائه الراشدين تدل على ذلك.
فإن هذا إنما يفعله من يفعله على أنه قربه
وطاعة وأنه مما يستجاب به الدعاء.
589 - وماكان من هذا النوع فإما أن يكون
واجباً وإما أن يكون مستحباً، وكل ما كان واجباً أو مستحباً في العبادات والأدعية
فلابد أن يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن
واجباً ولا مستحباً ولا يكون قربة وطاعة ولا سبباً لإجابة الدعاء، وقد تقدم بسط
الكلام على هذا كله.
590 - فمن اعتقد ذلك في هذا وفي هذا فهو
ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة وما استقريء من أحوال
النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعاً عندهم.
591 - وأيضاً فقد تبين أنه سؤال لله تعالى
بسبب لا يناسب إجابة الدعاء وأنه كالسؤال بالكعبة والطور والكرسي والمساجد وغير ذلك
من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس هو مشروعاً، كما أن الإقسام بها
ليس مشروعاً بل هو منهي عنه، فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على
الله بمخلوق ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء
كما تقدم تفصيله.
592 - لكن قد روي في جواز ذلك آثار وأقوال
عن بعض أهل العلم؛ ولكن ليس في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ثابت بل
كلها موضوعة، وأما النقل عن من ليس قوله حجة فبعضه ثابت وبعضه ليس بثابت.
593 - والحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة
وفيه:
«بحق
السائلين عليك وبحق ممشاي هذا».
رواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن مرزوق عن
عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من قال إذا خرج إلى الصلاة:
اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي/ هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا،
ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن
تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك
يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته».
وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن
أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم.
594 - وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف أيضاً،
ولفظه لا حجة فيه فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق
أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على
نفسه في أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك.
595 - وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في
الغار بأعمالهم فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن
الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة؛ لأن هذه الأعمال أمر الله بها ووعد
الجزاء لأصحابها فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله (3: 193):
﴿رَبَّنَا
إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾، وقال تعالى:
(23: 109) ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ
عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾، وقال تعالى: (3: 15 -
16): ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
596 - وكان ابن مسعود يقول في السحر:
«اللهم
دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي».