صفحة جديدة 18
572 - وهكذا في الإباحات، كما استباح أبو
طلحة أكل البَرد وهو صائم.
واستباح حذيفة السحور بعد ظهور الضوء
المنتشر حتى قيل هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع. وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك،
وجب الرد إلى الكتاب والسنة.
573 - وكذلك الكراهية والتحريم. مثل كراهة
عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت.
وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى
التمتع، أو التمتع مطلقاً، أو رأى تقدير مسافة القصر بحدٍّ حدَّه، وأنه لا يقصر
بدون ذلك، أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر.
ومن ذلك قول سلمان: إن الريق نجس.
وقول ابن عمر: إن الكتابية لا يجوز نكاحها.
وتوريث معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر.
ومنع عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم.
وقول علي وزيد وابن عمر في المفوِّضة: إنه
لا مهر لها إذا مات الزوج.
وقول علي وابن عباس في المتوفى عنها
الحامل: إنها تعتدُّ أبْعَدَ الأجَلَين.
وقول ابن عمر وغيره: إن المحرم إذا مات بطل
إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال.
وقول ابن عمر وغيره: لا يجوز الاشتراط في
الحج.
وقول ابن عباس وغيره في المتوفى عنها: ليس
عليها لزوم المنزل.
وقول عمر وابن مسعود: إن المبتوتة لها
السكنى والنفقة.
وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة، فإنه
يجب فيه الرد إلى الله والرسول، ونظائر هذا كثير فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
574 - ومن قال من العلماء:
«إن قول الصحابي
حجة» فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة
ولا عرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على القول، فقد يقال:
«هذا إجماع إقراري»،
إذا عرف أنهم أقروه لم ينكره أحد منهم، هم لا يقرون على باطل.
575 - وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن
غيره لم يخالفه فقد يقال:
«هو
حجة». وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة
بالاتفاق.
576 - وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو
خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم.
577 - وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن
عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه
وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً له ولا شافعاً فيه،
فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته، كما كان يشرع في
حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا.
578 - بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور
الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما
اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس
قال:
«اللهم
إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا»
فيسقون.
579 - وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة،
لم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي
سفيان في خلافته لما استسقى بالناس.
580 - فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه
وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود
ونحوهما؟ ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل
الوسائل وأعظمها عند الله؟.
581 - فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم
أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة
غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته.
582 - وحديث الأعمى حجة لعمر / وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنه
إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه لا
بذاته، وقال له في الدعاء:
«قل
اللهم شفعه فيَّ»، وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر
غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره
المتضمن للتوسل بشفاعته، كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق [لسنة] رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكان المخالف لعمر محجوجاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له. والله أعلم.