صفحة جديدة 20
597 - وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على
الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأموراً به إيجاباً أو
استحباباً، أو منهياً عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحاً لا مأموراً به ولا منهياً
عنه.
598 - وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح؛
فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها. فمن
قال إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين
الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم.
599 - فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة
كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار
إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها،
والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها - ويسأل
الله تعالى ويقسم عليه بالخُنَّس الجواري الكنَّس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا
تنفس، ويسأل بالذاريات ذرواً، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمراً -
ويسأل بالطور، وكتاب مسطور في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر
المسجور، ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفا، وسائر ما أقسم الله به في كتابه، فإن الله
يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته فهي دليل على ربوبيته،
وألوهيته، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، ومشيئته، ورحمته، وحكمته، وعظمته، وعزته، فهو
سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن - المخلوقون - ليس لنا أن
نقسم بها بالنص والإجماع.
600 - بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا
يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهي عنه، ومن
سأل الله بها لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله
بالرياح والسحاب والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار والتين والزيتون وطور
سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت والصفا والمروة وعرفة
ومزدلفة ومنى وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم ذلك أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من
دون الله، كالشمس والقمر والكواكب والملائكة والمسيح والعزيز وغير ذلك مما عبد من
دون الله ومما لم يعبد من دونه.
601 - ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات
أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص
والعام.
602 - ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى
بالأقسام والعزائم التي تكتب في الحروز والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون.
603 - بل ويقال: إذا جاز / السؤال والإقسام
على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم والأقسام التي يقسم بها على
الجن مشروعة في دين الإسلام، وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من الإسلام بل ومن
دين الأنبياء أجمعين.
604 - وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم
عليه بمعظم دون معظَّم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره، كما
جوز بعضهم الحلف بذلك، أو الأنبياء والصالحين دون غيرهم.
605 - قيل له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل
من بعض فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها نِدًّا لله تعالى، فلا يُعبدُ ولا
يتوكل عليه ولا يخشى ولا يتقى ولا يصام له ولا يسجد له ولا يرغب إليه، ولا يقسم
بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«من كان حالفاً
فليحلف بالله، أو ليصمت».
وقال:
«لا تحلفوا إلا بالله».
وفي السنن عنه أنه قال:
«من حلف بغير
الله فقد أشرك».
606 - فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه لايجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين
الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبي ونبي.
607 - وهذا كما قد سوى الله تعالى بين جميع
المخلوقات في ذم الشرك بها وإن كانت معظمة. قال تعالى: (3: 79 - 80):
﴿مَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ
تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾،
وقال تعالى: (17: 56 - 57): ﴿قُلْ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ
وَلاَ تَحْوِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾.
608 - قالت طائفة من السلف: كان أقوام
يدعون المسيح والعزيز والملائكة، فقال تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون
رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ويتقربون إليَّ كما
تتقربون إليَّ.
609 - وقد قال تعالى (24: 52)
﴿وَمَنْ يُطِعْ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْفَائِزُونَ﴾.
فبين أن الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع
الرسول فقد أطاع الله، وبين أن الخشية والتقوى لله وحده فلم يأمر أن يخشى مخلوق ولا
يتقى مخلوق.
610 - وقال تعالى: (9: 59):
﴿وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾،
وقال تعالى (94: 7 - 8) ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ
فَانصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾. فبين
سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله، ويقولوا حسبنا
الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون، فذكر الرضا بما آتاه الله
ورسوله لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه
ووعده ووعيده. فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما
شرعه الله ورسوله. ولهذا قال تعالى (59: 7): ﴿وَمَا
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾.
فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله، والأموال المشتركة، كمالِ
الفيء والغنيمة والصدقات، عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها، وهو مقدار حقه
لا يطلب زيادة على ذلك، ثم قال تعالى (9: 59) ﴿وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ﴾، ولم يقل: «ورسوله»؛
فإن الحسْب هو الكافي، والله وحده هو كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى (8: 64):
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ
وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي هو
وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين.
611 - هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور
السلف والخلف كما بين في موضع آخر، والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه. فكل من
اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه، ثم قال تعالى (9: 59):
﴿سَيُؤْتِينَا
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾، فذكر
الإيتاء لله ورسوله، لكن وسطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله: ﴿سَيُؤْتِينَا
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾، ثم قال
تعالى: ﴿إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾،
فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات.
612 - فقد تبين أن الله سوى بين المخلوقات
في هذه الأحكام، لم يجعل لأحد من المخلوقين - سواء كان نبياً أو ملكاً - أن يقسم/
به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه ولا يخشى ولا يتقى. وقال تعالى (34: 22 - 23)
﴿قُلْ
ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ
وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَ
لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾.
613 - فقد تهدد سبحانه من دعا شيئاً من دون
الله وبين أنهم لا ملك لهم مع الله ولا شركاء في ملكه، وأنه ليس له عون ولا ظهير من
المخلوقين. فقطع تعلق القلوب بالمخلوقات رغبة ورهبة وعبادة واستعانة، ولم يبق إلا
الشفاعة وهي حق، لكن قال الله تعالى:
﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ
عِنْدَهُ إِلاَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾.
614 - وهكذا دلت الأحاديث الصحيحية في
الشفاعة يوم القيامة، إذا أتي الناس آدم وأولي العزم نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بن
مريم فيردهم كل واحد إلى الذي بعده، إلى أن يأتوا المسيح فيقول لهم: اذهبوا إلى
محمد عبد [غفر] الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال صلى الله عليه وسلم:
«فيأتوني
فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت ساجداً وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحسنها
الآن، فيقال لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع - قال - فيحدّ
لي حدّ فأدخلهم الجنة». وذكر تمام الخبر.
615 - فبين المسيح أن محمداً هو الشفيع
المشفع؛ لأنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبين محمدٌ عبد الله
ورسوله أفضل الخلق وأوجهُ الشفعاء وأكرمهم على الله تعالى أنه يأتي فيسجد ويحمد، لا
يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فيقال له: ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع، وذكر أن ربه
يحد له حداً فيدخلهم الجنة.
616 - وهذا كله يبين أن الأمر كله لله، هو
الذي يلزم الشفيع بالإذن له في الشفاعة، والشفيع لا يشفع إلا فيمن يأذن [الله له]،
ثم يحد للشفيع حداً فيدخلهم الجنة. فالأمر بمشيئته وقدرته واختياره. وأوجه الشفعاء
وأفضلهم هو عبده الذي فضله على غيره واختاره واصطفاه بكمال عبوديته وطاعته وإنابته
وموافقته لربه فيما يحبه ويرضاه.
617 - وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة
إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هي من الأحكام التي اشتركت المخلوقات فيها فليس لمخلوق
أن يقسمَ به ولا يتقى ولا يتوكل عليه وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من
الملائكة والنبيين، فضلاً عن غيرهم من المشايخ والصالحين.
618 - فالسؤال لله تعالى بالمخلوقات إن كان
بما أقسم به وعظمه من المخلوقات فيسوغ السؤال بذلك كله وإن [لا] لم يكن سائغاً [و]
لم يجز أن يسأل بشيء من ذلك، والتفريق في ذلك بين معظم ومعظم كتفريق من فرق فجوز
الحلف ببعض المخلوقات دون بعض، وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر.
619 - ولو فرق مفرق بين مايؤمن به وبين
مالا يؤمن به، قيل له: فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به
الرسول مثل منكر ونكير والحور العين والولدان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه
المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها؟ أم يجوز السؤال بها كذلك؟.
620 - فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن
المسئول به سبباً لإجابة الدعاء فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين
القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز. فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من
العلماء. والله أعلم.
621 - وأما قوله تعالى (2: 89):
﴿وَكَانُوا
مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾،
فكانت اليهود تقول للمشركين: سوف يبعث هذا النبي ونقاتلكم معه فنقتلكم، لم يكونوا
يقسمون على الله بذاته ولا يسألون به، بل يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الأمي
لنتبعه ونقتل هؤلاء معه.