صفحة جديدة 22
639 - فإذا لم يكن
الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره، في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته، يقسمون
بذاته، بل إنما كانوا يتوسلون بطاعته أو بشفاعته، فكيف يقال في دعاء المخلوقين
الغائبين والموتى، وسؤالهم من الأنبياء والملائكة وغيرهم، وقد قال تعالى: (17: 56 -
57):
﴿قُلْ ادْعُوا /
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ
وَلاَ تَحْوِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾.
640 - قالت طائفة من السلف: كان أقوام
يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وغيرهما، فنهى الله عن ذلك، وأخبر تعالى أن
هؤلاء يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ويتقربون إليه، وأنهم لا يملكون كشف الضر عن
الداعين ولا تحويله عنهم. وقد قال تعالى (3: 79 - 80):
﴿مَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ
تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
641 - ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم
أن يُتخذ قبره مسجدا، وأن يتخد عيداً، وقال في مرض موته:
«لعنة الله على اليهود
والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». يحذر
ما صنعوا. أخرجاه في الصحيحين.
642 - وقال:
«اللهم لا تجعل قبري وثناً
يعبد، اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
رواه مالك في موطئه.
643 - وقال:
«لا تطروني كما أطرت النصارى
عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله».
متفق عليه.
644 - وقال:
«لا تقولوا ما شاء الله وشاء
محمد، بل ماشاء الله ثم شاء محمد».
645 - وقال له بعض الأعراب: ما شاء الله
وشئت فقال:
«أجعلتني
لله نِداً؟ بل ما شاء الله وحده».
646 - وقد قال الله تعالى له (7: 188):
﴿قُلْ
لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ
أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ﴾.
وقال تعالى (10: 49): ﴿قُلْ لاَ أَمْلِكُ
لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا﴾. وقال تعالى
(28: 56): ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.
وقال تعالى (3: 128): ﴿لَيْسَ لَكَ مِنْ
الأمْرِ شَيْءٌ﴾. وهذا تحقيق التوحيد، مع أنه
صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم منزلة عند الله.
647 - وقد روى الطبراني في معجمه الكبير،
أن منافقاً كان يؤذي المؤمنين، فقال أبوبكر: قوموا نستغيث برسول الله من هذا
المنافق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
«إنه
لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله».
648 - وفي صحيح مسلم في آخره أنه قال قبل
أن يموت بخمس:
«إن
من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم
عن ذلك».
649 - وفي صحيح مسلم - أيضاً - وغيره، أنه
قال:
«لا
تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها».
650 - وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي
هريرة - وله طرق متعددة عن غيرهما - أنه قال:
«لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة
مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى».
651 - وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته، وإن أراد المسجد
فليأته. ثم ذكر الحديث
«لا
تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد».
ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه.
652 - ولو حلف حالف بحق المخلوقين لم ينعقد
يمينه، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء والملائكة وغيرهم، ولله تبارك وتعالى حق لا
يشركه فيه أحد لا الأنبياء ولا غيرهم. وللأنبياء حق، وللمؤمنين حق، ولبعضهم على بعض
حق.
فحقه تبارك وتعالى أن يعبد، ولا يشرك به
كما تقدم في حديث معاذ.
653 - ومن عبادته تعالى أن يخلصوا له الدين
ويتوكلوا عليه ويرغبوا إليه، ولا يجعلوا لله نداً لا في محبته ولا خشيته ولا دعائه
ولا الاستعانة به، كما في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم:
«من مات وهو يدعو
نداً من دون الله دخل النار».
654 - وسئل: أي الذنب أعظم؟ قال:
«أن تجعل
لله نداً وهو خلقك».
655 - وقيل له:
«ماشاء الله وشئت. فقال:
أجعلتني لله نداً! بل ما شاء الله وحده».
656 - وقد قال تعالى (4: 48، 116):
﴿إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ﴾ وقال تعالى (2: 22): ﴿فَلاَ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
(16: 15): ﴿وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين
إنما هو إله واحد فإياى فارهبون﴾، (29: 56)
﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
وقال تعالى (94: 7 - 8): ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ
فَانصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾، وقال
تعالى في فاتحة الكتاب التي هي أم القرآن: ﴿إياك
نعبد/ وإياك نستعين﴾، وقال تعالى (2: 165):
﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُبًّا لِلَّهِ﴾ وقال تعالى (5: 44): ﴿فَلاَ
تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي﴾ وقال تعالى
(33: 39): ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ
اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَ اللَّهَ﴾.
657 - ولهذا لما كان المشركون يخوّفون
إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى (6: 80 - 82):
﴿وَحَاجَّهُ
قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا
تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ
عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ
تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ
الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
658 - وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: لما
نزلت هذه الآية
﴿الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾
شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم
النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما ذاك الشرك كما
قال العبد الصالح (31: 13): ﴿يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾». وقال تعالى (24: 52):
﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ
اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾.
659 - فجعل الطاعة لله والرسول، فإنه من
يطع الرسول فقد أطاع الله. وجعل الخشية والتقوى لله وحده فلا يخشى إلا الله، ولا
يتقى إلا الله. وقال تعالى (5: 44):
﴿فَلاَ
تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾.
وقال تعالى: (3: 175): ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وقال
تعالى (9: 59): ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا
آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾.
فجعل سبحانه الإيتاء لله والرسول في أول الكلام وآخره، كقوله تعالى (59: 7):
﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾. مع جعله الفضل لله وحده،
والرغبة إلى الله وحده وهو تعالى وحده. حسبهم لا شريك له في ذلك.
660 - وروى البخاري عن ابن عباس في قوله:
﴿حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ قال: قالها
إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد (3: 173): حين قَالَ لَهُمْ النَّاسُ:
﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ﴾.
661 - وقال تعالى (8: 64):
﴿يَاأَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
ومعنى ذلك [عند] جماهير السلف والخلف أن الله وحده حسبك وحسبُ من اتبعك من
المؤمنين، كما بسط ذلك بالأدلة.
وذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم
الوسائط بيننا وبين الله في أمره ونهيه ووعده ووعيده.
662 - فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام
ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. فعلينا أن نحب الله ورسوله،
ونطيع الله ورسوله، ونرضي الله ورسوله، قال تعالى (9: 62):
﴿وَاللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
وقال تعالى (4: 59): ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾. وقال تعالى (4: 80):
﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ﴾. وقال تعالى (9: 24): ﴿قُلْ
إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾.
663 - وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث
من كنَّ فيه وجدَ بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن
كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله
منه كما يكره أن يُلقى في النار».
664 - وقد قال تعالى (48: 8 - 9): ﴿إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾.
فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير
للرسول، وتعزيره نصره ومنعه، والتسبيح بكرة وأصيلا/ لله وحده، فإن ذلك من العبادة
لله.