صفحة جديدة 11
353 - فإن قيل: إذا كان التوسل بالإيمان به
ومحبته وطاعته على وجهين - تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته (وهذا أعظم الوسائل)،
وتارة يتوسل بذلك في الدعاء كما ذكرتم نظائره - فيحمل قول القائل: أسألك بنبيك
محمد، على أنه أراد: إني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته،
ونحو ذلك.
354 - وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع.
قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى لكلام
من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف كما نقل عن بعض الصحابة
والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره، كان هذا حسناً وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع،
ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر
عليهم من أنكر، وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته
وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ.
355 - فإن قيل: فقد يقول الرجل لغيره: بحق
الرحم. قيل: الرحم توجب على صاحبها حقاً لذي الرحم كما قال الله تعالى (4: 1):
﴿وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ﴾.
356 - وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«الرحم
شُجْنة من الرحمن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله».
357 - وقال:
«لما خلق الله الرحم تعلقت
بحقوي الرحمن وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من
وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت».
358 - وقال صلى الله عليه وسلم:
«يقول
الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن
قطعها بتته».
359 - وقد روي عن علي أنه كان / إذا سأله
ابن أخيه بحق جعفر أبيه أعطاه لحق جعفر على عليّ.
360 - وحق ذي الرحم باق بعد موته كما في
الحديث أن رجلاً قال: يارسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟
قال:
«نعم!
الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك
إلا من قبلهما».
361 - وفي الحديث الآخر حديث ابن عمر:
«[إن]
من أبِّر البرّ أن يصل الرجل أهل وُدّ أبيه بعد أن يولي».
فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من
تمام بره.
362 - والذي قاله أبوحنيفة وأصحابه وغيرهم
من العلماء - من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بحق الأنبياء ولا غير
ذلك - يتضمن شيئين كما تقدم:
363 - أحدهما: الإقسام على الله سبحانه
وتعالى به، وهذا منهيٌّ عنه عند جماهير العلماء كما تقدم، كما ينهى أن يقسم على
الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء.
364 - والثاني: السؤال به، فهذا يجوّزه
طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس،
لكنَّ ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله ضعيفٌ بل موضوع، وليس عنه
حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علَّمه أن يقول:
«أسألك
وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة».
365 - وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه
صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي
صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول:
«اللهم شَفِّعْه
فيَّ» ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له
النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم. ولو
توسل غيره من العميان الذين لم يدْعُ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم
تكن حالهم كحاله.
366 - ودعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في
الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله:
«اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل
إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا»
يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته، إذ لو
كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال
بالعباس.
367 - وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء
والصالحين دون الإقسام بهم لأن بين السؤال والإقسام فرقا، فإن السائل متضرع ذليل
يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم
لايقسم إلا على من يرى أنه يبرُّ قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد، وأما إجابة
السائلين فعام، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً.
368 - وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
«ما
من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال
ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدَّخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه
من الشرّ مثلها» قالوا: يارسول الله إذن نكثر.
قال: «الله أكثر».