HTML Editor - Full Version
وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْجُودٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ.
وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقَةً مِثْلَ: وُجُودٍ مُطْلَقٍ، وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ، وَجِسْمٍ مُطْلَقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛
فَخَالَفُوا الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَجَعَلُوا مَا فِي الْأَذْهَانِ ثَابِتًا فِي الْأَعْيَانِ؛ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الِاشْتِبَاهِ..
وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمُورِ- وَإِنْ اشْتَرَكَتْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ- وَعَلِمَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالتَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَضِلُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ الْفَارِقِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَصْلِ وَالِافْتِرَاقِ..
وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ (إنَّا وَ نَحْنُ) وَغَيْرُهُمَا مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْفِعْلِ، وَيَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ كُلُّ صِفَةٍ مَقَامَ وَاحِدٍ وَلَهُ أَعْوَانٌ تَابِعُونَ لَهُ؛ لَا شُرَكَاءَ لَهُ فَإِذَا تَمَسَّكَ النَّصْرَانِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ وَنَحْوَهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ كَانَ الْمُحْكَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا يُزِيلُ مَا هُنَاكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ؛
وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ مُبَيِّنًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ..
وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا لَهُ مِنْ الْجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا هُوَ ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ﴾ وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بِخِلَافِ الْمَلِكِ مِنْ الْبَشَرِ إذَا قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَك بِعَطَاءِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ وَأَعْوَانُهُ مِثْلُ كَاتِبِهِ وَحَاجِبِهِ وَخَادِمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أُمِرُوا بِهِ، وَقَدْ يَعْلَمُ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ..
وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يُعْلِمُ عِبَادَهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ..
وَلَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ مَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا حَقَائِقَ مَا صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ..
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ، كَمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَاطِئَةِ وَإِنْ زَالَ الِاشْتِبَاهُ بِمَا يُمَيِّزُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ: مِنْ إضَافَةٍ أَوْ تَعْرِيفٍ..
كَمَا إذَا قِيلَ: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ فَهُنَاكَ قَدْ خَصَّ هَذَا الْمَاءَ بِالْجَنَّةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَاءِ الدُّنْيَا لَكِنَّ حَقِيقَةَ مَا امْتَازَ بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا وَهُوَ مَعَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ - مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ..
وَكَذَلِكَ مَدْلُولُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ؛
وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُنْكِرُونَ عَلَى الجهمية وَأَمْثَالِهِمْ - مِنْ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ - تَأْوِيلَ مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ..
كَمَا قَالَ أَحْمَدُ: فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَلَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ: مِنْ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ الْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللَّهِ بِهِ..
فَذَلِكَ لَا يُعَابُ بَلْ يُحْمَدُ وَيُرَادُ بِالتَّأْوِيلِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا فَذَاكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا: اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُ مِثْلُ طَائِفَةٍ يَقُولُونَ إنَّ التَّأْوِيلَ بَاطِلٌ وَإِنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ وَيَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ هُنَاكَ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَجِهَةُ الْغَلَطِ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَذْمُومُ وَالْبَاطِلُ:
- فَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْل التَّحْرِيفِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ،
- وَيَدَّعُونَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ،
- وَيَدَّعُونَ أَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ نَظِيرُ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ بِالْعَقْلِ ،
- وَيَصْرِفُونَهُ إلَى مَعَانٍ هِيَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ؛ فَيَكُونُ مَا نَفَوْهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَثْبَتُوهُ..
فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ حَقًّا مُمْكِنًا كَانَ الْمَنْفِيُّ مِثْلَهُ،
وَإِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّ بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ الثَّابِتُ مِثْلَهُ..
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾؛
قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّا خُوطِبْنَا فِي الْقُرْآنِ
- بِمَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ؛
- أَوْ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ،
- أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ؛
وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ.. لِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يُوَافِقُهُ؛
لَا مَكَانَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ: لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ لَنَا فَإِنَّهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ..
فَلَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى دَلَالَةً عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَكُونُ تَأْوِيلًا،
وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعَانٍ لَا نَعْرِفُهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.
فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَدْ لَا نَكُونُ عَارِفِينَ بِهَا..
وَلِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ اللَّفْظَ وَمَدْلُولَهُ فَلِأَنْ لَا نَعْرِفَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إشْعَارَ اللَّفْظِ بِمَا يُرَادُ بِهِ أَقْوَى مِنْ إشْعَارِهِ بِمَا لَا يُرَادُ بِهِ؛
فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ لَا إشْعَارَ لَهُ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى أَصْلًا لَمْ يَكُنْ مُشْعِرًا بِمَا أُرِيدَ بِهِ..
فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مُشْعِرًا بِمَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَوْلَى فَلَا يَجُوزُ:
أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ..
فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ الْمُخْتَصُّ بِالْخَلْقِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ.
لَكِنْ إذَا قَالَ هَؤُلَاءِ:
- أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ،
- أَوْ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ مِنْهَا؛
كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ.
وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ هُنَا مَعْنًى وَهُنَاكَ مَعْنًى: فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ كَانَ تَلْبِيسًا..
وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ أَيْ تَجْرِي عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ كَانَ إبْطَالُهُمْ لِلتَّأْوِيلِ أَوْ إثْبَاتُهُ تَنَاقُضًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ تَأْوِيلًا أَوْ نَفَاهُ فَقَدْ فَهِمَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي.
وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَتَبَيَّنُ تَنَاقُضُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ وَمُثْبِتِيهَا فِي هَذَا الْبَابِ.