شرح الرسالة التبوكية - زاد المهاجر إلى ربه - فضيلة الشيخ وليد بن إدريس المنيسي
والمقصود ان صدور الخلق والامر عن علم الرب وحكمته واختصت هذه القصة بذكر هذين الاسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين ابوين لايولد لمثلهما عادة وخفاء العلم بسبب هذا الايلاد وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة فذكر في الاية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته وحكمته في وضعه موضعه من غير اخلال بموجب الحكمة
(1/70)
ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في ارسالهم لهلاك قوم لوط وارسال الحجارة المسومة عليهم وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله واهلاك المكذبين لهم والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عيانا في هذا العالم وهذا من اعظم الادلة الدالة على صدق رسله لصحة ما اخبروا به عن ربهم
ثم قال تعالى : فاخرجنا من كان فيها من المؤمنون فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ففرق بين الاسلام والايمان هنا لسر اقتضاه الكلام
فان الاخراج هنا عبارة عن النجاة فهو اخراج نجاة من العذاب و لاريب ان هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرا وباطنا
وقوله تعالى فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين لما كان الموجودون من المخرجين اوقع اسم الاسلام عليهم لان امراة لوط كانت من اهل هذا البيت وهي مسلمة في الظاهر فكانت في البيت الموجودين لافي القوم الناجيين وقد اخبر سبحانه عن خيانة امراة لوط وخيانتها انها كانت تدل قومها على اضيافه وقلبها معهم وليست خيانة فاحشة فكانت من اهل البيت المسلمين ظاهرا وليست من المؤمنين الناجيين
ومن وضع دلالة القران والفاظه مواضعها تبين له من اسراره وحكمة ما يبهر العقول ويعلم انه تنزيل من حكيم حميد
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو : ان الاسلام اعم من
(1/71)
الايمان فكيف استثناء الاعم من الاخص وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس وتبين ان المسلمين المستثنين مما وقع عليه فعل الوجود والمؤمنين غير مستثنين منه بل هم المخرجون الناجون
وقوله تعالى وتركنا فيها اية للذين يخافون العذاب الاليم فيه دليل على ان آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وابقى آثارها دالة عليه وعلى صدق رسله انما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ويخشى عذاب الله تعالى
كما قال الله تعالى في موضع آخر ان في ذلك لآية لمن خاف عذاب الاخرة
وقال تعالى : سيذكر من يخشى فان من لايؤمن بالآخرة غايته ان يقول : هؤلاء قوم اصابهم الدهر كما اصاب غيرهم ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة
و اما من آمن بالآخرة واشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ
والمقصود بهذا انما هو التنبيه والتمثيل على تفاوت الافهام في معرفة القرآن واستنباط اسراره وآثار كنوزه ويعتبر بهذا غيره والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
(1/72)
فصل الرفيق والطريق والمقصود ان القلب لما تحول لهذا السفر طلب رفيقا
يانس به في السفر فلا يجد الا معارضا مناقضا او لائما بالتأنيب مصرحا او فارغا من هذه الحركة معرضا وليت كل ما ترى هكذا فلقد احسن اليك من خلال وطريقك ولم يطرح شره عليك كما قال القائل
انا لفي زمن ترك القبيح به ... من اكثر الناس احسان واجمال
فإدا كان هذا المعروف من الناس فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالاعراض وترك اللائمة والاعتراض الا ما عسى ان يقع نادرا فيكون غنيمة باردرة لا قيمة لها
ولا ينبغي ان لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة بل يسير و لو وحيدا غريبا فانفراد العبد في طريق طلبة دليل على صدق المحبة
ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات علم انها من اهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى وسفر الهجرة الى الله ورسوله وهو الذي قصد سطرها بكتابتها وجعلها هديته المعجلة السابقة الى اصحابه ورفقائه في طلب العلم
وشهد الله وكفى بالله شهيدا ولو توافي احدا منهم لقابلها بالقبول ولبادر
(1/73)
الى تفهمها وعدها من افضل ما اهدى صاحب الى صاحبه فإن غير هذا من جريانات الركب الخيرية وان تطلعت النفوس اليها ففائدتها قليلة وهي في غاية الرخص لكثرة جالبها وانما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل الى اخيه المسلم الموتى الاحياء والاحياء الموتى
ومن اراد هذا السفر فعليه بمرافقة الاموات الذين هم في العالم احياء فانه يبلغ بمرافقتهم الى مقصده وليحذر من مرافقة الاحياء الذين هم في الناس اموات فإنهم يقطعون عليه طريقه فليس لهذا السالك انفع من تلك المرافقة واوفق له من هذه المفارقة فقد قال بعض السلف : شتان بين اقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم وبين اقوام احياء تموت القلوب بمخالطتهم
فما على العبد اضر من عشائره وابناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك اين سلكوا حتى لو دخلوا جحر ضب لاحب ان يدخله معهم
فمتى صرف همته عن صحبتهم الى صحبة من اشباحهم مفقودة ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة استحدث بذلك همة اخرى وعملا آخر وصار بين الناس غريبا وان كان فيهم مشهورا ونسيبا ولكنه
(1/74)
غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه يقيم لهم المعاذير ما استطاع ويحضهم بجهده و طاقته سائرا فيهم بعينين عين ناظرة الى الامر والنهى بها يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم وعين ناظرة الى القضاء والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بامر و لا يعود بنقض شرع وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته وقفا عند قوله تعالى خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين متدبرا لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق واداء حق الله فيهم والسلامة من شرهم فلو اخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى من اخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذلة من اموالهم و اخلاقهم
فهذا ما منهم اليه واما ما يكون منه اليهم فأمرهم بالمعروف وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنة وهو ما امر الله به و اما ما يتقي به اذى جاهلهم فالاعراض عنه وترك الانتقام لنفسه والاقتصار لها
فأي كمال للعبد وراء هذا واي معاشرة وسياسة لهذا العالم احسن من هذه المعاشرة والسياسة فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم اعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى من الله وجد سببه الاخلال بهذه الثلاث او بعضها والا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس
(1/75)
فهو خير له وان شرا في الظاهر فانه يتولد من الامر بالمعروف ولا يتولد منه الا خيرا وان ورد في حالة شر واذى
كما قال الله تعالى ان الذين جاءوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق فإنهم اما يسيئوا في حق الله وفي حق رسوله فإن اساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وان اساءوا في حقي فاسألني اغفر لهم واستجلب قلوبهم واستخرج ما عندهم من الراي بمشاورتهم فإن ذلك احرى في استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة فاذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه من امرك فإن الله يحب المتوكلين
فهذا وامثاله من الاخلاق التي ادب الله بها رسوله وقال تعالى فيه وانك لعلى خلق عظيم قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن وهذا لايتم الا بثلاثة اشياء
احدها : ان يكون العود طيبا فاما ان كانت الطبيعة جافية غليظة
(1/76)
يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علما وارادة وعملا بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فانها مستعدة انما تريد الحرث والبذر
الثاني : ان تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الامور تنافي الكمال فان لم تقو النفس على قهرها و الا لم تزل مغلوبة مقهورة
الثالث : علم شاف بحقائق الاشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم والزجاجة والجوهرة
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى وتمت لهم العناية
والله سبحانه وتعالى اعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ابدا الى يوم الدين والحمد لله رب العالمين
(1/77)