فصل في اطفال المؤمنين
واما النوع الثاني من الاتباع : فهم اتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا وانما هم مع ابائهم تبع لهم
وقال الله تعالى فيهم والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان الحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شئ
اخبر سبحانه انه الحق الذرية بآبائهم في الجنة كما اتبعهم اياهم في الايمان
ولما كان الذرية لاعمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى : وما التناهم من عملهم من شئ والضمير عائد الى الذين امنوا
أي وما نقصناهم من عملهم بل رفعنا ذريتهم الى درجتهم مع توفيتهم اجور اعمالهم فليست منزلتهم منزلة من لم يكن له عمل بل وفيناهم اجورهم فالحقنا بهم ذريتهم فوق ما يستحقون من اعمالهم
ثم لما كان هذا الالحاق في الثواب والدرجات فضلا من الله فربما
(1/57)
وقع في الوهم ان الحاق الذرية ايضا حاصل لهم في حكم العدل فلما اكتسبوا سيئات اوجبت عقوبة كان كل عامل رهينا بكسبه لا يتعلق بغيره شئ فالالحاق المذكور انما هو في الفضل والثواب لا في العدل والعقاب وهذا نوع من اسرار القران وكنوزه التي يختص الله بفهمها من شاء
فقد تضمنت هذه الاية اقسام الخلائق كلهم : اشقيائهم و سعدائهم
السعداء المتبوعين والاتباعوالاشقياء المتبوعين والاتباع
فعلى العاقل الناصح لنفسه ان ينظر في أي الاقسام هو و لا يغتر بالعادة ويخلد الى البطالة فان كان من قسم سعيد انتقل الى ما هو فوقه وبذل جهده والله ولي التوفيق والنجاح وان كان من قسم شقي انتقل منه الى القسم السعيد في زمن الامكان قبل ان يقول ياليتني اتخدت مع الرسول سبيلا
(1/58)
فصل في سفر الهجرة
والمقصود بهذا ان من اعظم التعاون على البر والتقوى والتعاون على سفر الهجرة الى الله والرسول باليد واللسان والقلب والمساعدة والنصيحة تعليما وارشادا ومودة
ومن كان هكذا مع عباد الله فكل خير اليه اسرع واقبل الله اليه بقلوب عباده وفتح على قلبه ابواب العلم ويسره لليسرى
ومن كان بالضد فبالضد زاد المسافر
فإن قلت : قد اشرت الى سفر عظيم وامر جسيم فما زاد هذا السفر وما طريقه وما مركبه
قلت زاده العلم الموروث من خاتم الانبياء صلى الله عليه و سلم ولا زاد له سواه فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته وليقعد مع الخالفين
فرفقاء المتخلف البطالون اكثر من ان يحصوا فله اسوة بهم ولن ينفعه هذا التاسي يوم الحسرة شيئا كما قال تعالى : ولن ينفعكم اليوم اذ ظلمتم انكم في العذاب مشتركون فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتاسي بعضهم
(1/59)
ببعض في العذاب فان مصائب الدنيا اذا عمت صارت مسلاة وتأسي بعض المصابين ببعض كما قالت الخنساء
ولولا كثرة الباكين حولي ... على اخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل اخي ولكن ... اسلي النفس عنه بالتاسي
فهذا الروح الحاصل من التاسي معدوم بين المشتركين في العذاب يوم القيامة
طريق السفر واما طريقه : فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع فلا ينال بالمني
ولن يدرك بالهوينا وانما هو كما قيل
فخض غمرات الموت واسم الى العلا ... لكي تدرك العز الرفيع الدائم
فلا خير في نفس تخاف من الردى ... ولاهمة تصبو الى لوم لائم
ولا سبيل الى ركوب هذا الظهر الا بامرين :
احدهما : ان لايصبو في الحق الى لوم لائم فان اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه ويجعله صريعا في الارض
والثاني : ان تهون عليه نفسه في الله فيقدم حينئذ ولا يخاف الاهوال فمتى خافت النفس تاخرت و احجمت واخلدت الى الارض ولا يتم له هذان
(1/60)
الامران الا بالصبر فمن صبر قليلا صارت تلك الاهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها الى مطلوبه فبينما هو يخاف منها اذ صارت اعظم اعوانه وخدمه وهذا امر لا يعرفه الا من دخل فيه مركب المسافر
واما مركبه فصدق اللجأ الى الله والانقطاع اليه بكليته وتحقيق الافتقار اليه بكل وجه والضراعة اليه وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المسلوم المكسور الفارغ الذي لاشئ عنده فهو يتطلع الى قيمه ووليمة ان يجده ويلم شعثه و يمده من فضله و يستره فهذا الذي يرجي له ان يتولى الله هدايته وان يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها
(1/61)
فصل في التدبر والتفكر في الاء الله
ورأس الامر وعموده في ذلك انما هو دوام التفكر وتدبر ايات الله حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب فاذا صارت معاني القران مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه وصار له التصرف وصار هو الامير المطاع امره فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنا وهو يباري الريح وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي اتقن كل شئ انه خبير مما تفعلون
(1/62)
فصل في افلا يتدبرون القران
فان قلت : انك قد اشرت الى مقام عظيم فافتح لي بابه واكشف لي حجابه وكيف تدبر القران وتفهمه والاشراف على عجائبه وكنوزه وهذه تفاسير الائمة بايدينا فهل في البيان غير ما ذكروه قلت : ساضرب لك امثالا تحتذي عليها وتجعلها اماما لك في هذا المقصد
قال الله تعالى : هل اتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين اذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ الى اهله فجاء بعجل سمين فقربه اليهم قال الا تاكلون فاوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فاقبلت امراته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا : كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم
فعهدى بك اذا قرات هذه الاية وتطلعت الى معناها وتدبرتها فانما تطلع منها على ان الملائكة اتوا ابراهيم في صورة الاضياف ياكلون ويشربون وبشروه بغلام عليم وانما امراته عجبت من ذلك فاخبرتها الملائكة ان الله قال ذلك ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك
(1/63)
فاسمع الان بعض ما في هذه الايات من انواع الاسرار
وكم قد تضمنت من الثناء على ابراهيم
وكيف جمعت الضيافة وحقوقها
وما تضمنت من الرد على اهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة
وكيف تضمنت علما عظيما من اعلام النبوة
وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها الى العلم والحكمة
وكيف اشارت الى دليل امكان المعاد بالطف اشارة واوضحها ثم افصحت وقوعه
وكيف تضمنت الاخبار عن عدل الرب وانتقامه من الامم المكذبة
وتضمنت ذكر الاسلام والايمان والفرق بينهما
وتضمنت بقاء ايات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الاخر
وتضمنت انه لا ينتفع بهذا كله الا من في قلبه خوف من عذاب الاخرة وهم المؤمنون بها
واما من لا يخاف الاخرة ولا يؤمن بها فلا ينتفع بتلك الايات
فاسمع الان بعض تفاصيل هذه الجملة
قال الله تعالى هل اتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام وليس المراد بها حقيقة
(1/64)
الاستفهام ولهذا قال بعض الناس : ان هل في مثل هذا الموضع بمعنى قد التي تقتضي التحقيق ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ومعنى بديع فإن المتكلم اذا اراد ان يخبر المخاطب بامر عجيب ينبغي الاعتناء به واحضار الذهن له صدر له الكلام باداة الاستفهام لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به فتارة يصدره بالا وتارة يصدره بهل فقول هل علمت ما كان من كيت وكيت اما مذكرا به واما واعظا له مخوفا واما منبها على عظمه ما يخبر به واما مقررا له
فقوله تعالى هل اتاك حديث موسى و هل اتاك نبا الخصم وهل اتاك حديث الغاشية و هل اتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفتها ما تضمنته
ففيه امر اخر
وهو التنبيه على ان اتيان هذا اليك علم من اعلام النبوة فانه من الغيب الذي لاتعمله انت ولا قومك فهل اتاك من غير اعلامنا وارسالنا وتعريفنا ام لم ياتك الا من قبلنا
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام وتامل عظم موقعة من
(1/65)
جميع موارده يشهد انه من الفصاحة في ذروتها العليا
وقوله ضيف ابراهيم المكرمين متضمن لثنائه على خليله ابراهيم فان في المكرمين قولين
احدهما : اكرام ابراهيم لهم ففيه مدح ابراهيم باكرام الضيف
والثاني : انهم مكرمون عنذ الله كقوله تعالى بل عباد مكرمون وهو متضمن ايضا لتعظيم خليله ومدحه اذ جعل ملائكته المكرمين اضيافا له فعلى كلا التقديرين فيه مدح لابراهيم
وقوله فقالوا سلاما قال سلام متضمن بمدح اخر لابراهيم حيث رد عليهم السلام احسن مما حيوه به فان تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره : سلمنا عليك سلاما وتحية ابراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره سلام دائم او ثابث او مستقر عليكم ولا ريب ان الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم والفعلية تقتضي التجدد والحدوث فكانت تحية ابراهيم اكمل واحسن
ثم قال قوم منكرون وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح
احداهما : انه حذف المبتدا والتقدير : انتم قوم منكرون فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش
(1/66)
وكان النبي صلى الله عليه و سلم لايواجه احدا بما يكرهه بل يقول وما بال اقوام يقولون كذا ويفعلون كذا
الثاني قوله قوم منكرون فحذف فاعل الانكار وهو الذي كان انكرهم كما قال في موضع اخر نكرهم ولاريب ان قوله منكرون الطف من ان يقول انكرتم
وقوله فراغ الى اهله فجاء بعجل سمين فقربه اليهم قال الا تاكلون متضمن وجوها من المدح واداب الضيافة واكرام الضيف
منها قوله فراغ الى اهله والروغان الذهاب بسرعة واختفاء وهو يتضمن المبادرة الى إكرام الضيف والاختفاء يتضمن ترك تخجيله والا يعرض للحياء وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمراى منه ويحل صرة النفقة ويزن ما ياخذ ويتناول الاناء بمراى منه ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه فلفظة راغ تنفي هذين الامرين وفي قوله تعالى الى اهله مدح اخر لما فيه من الاشعار ان كرامة الضيف معدة حاصلة عند اهله وانه لايحتاج ان يستقرض من جيرانه ولا يذهب الى غير اهله اذ قرى الضيف حاصل عندهم
وقوله : فجاء بعجل سمين يتضمن ثلاثة انواع من المدح
احدها : خدمة ضيفه بنفسه فانه لم يرسل به وانما جاء به بنفسه
الثاني : انه جاءهم بحيوان تام لم ياتهم ببعضه ليتخيروا من اطيب لحمه ما شاءوا
(1/67)
الثالث : انه سمين ليس بهمزول وهذا من نفائس الاموال ولد البقر السمين فانهم يعجبون به فمن كرمه هان عليه ذبحه واحضاره
وقوله اليهم متضمن المدح وادابا اخرى وهو احضار الطعام الى بين يدي الضيف بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه
وقوله الا تأكلون فيه مدح واداب اخر فانه عرض عليهم الاكل بقوله الا تأكلوا وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف بخلاف من يقول : ضعوا ايديكم في الطعام كلوا تقدموا ونحو هذا
وقوله فاوجس منهم خيفة لانه لما رآهم لا ياكلون من طعامه اضمر منهم خوفا ان يكون معهم شر فان الضيف ادا اكل من طعام رب المنزل اطمان اليه وانس به فلما علموا منه ذلك قالوا لاتخف وبشروه بغلام عليم وهذا الغلام اسحق لا اسماعيل لان امراته عجبت من ذلك فقالت : عجوز عقيم لايولد لمثلي فاني لي بالولد واما اسماعيل فانه من سريته هاجر وكان بكره واول ولده وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب وهذه هي القصة نفسها
وقوله تعالى فاقبلت امراته في صرة فصكت وجهها فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها اذ بادرت الى الندبة فصكت الوجه عند هذا الاخبار
(1/68)
وقوله عجوز عقيم فيه حسن ادب المراة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتادى به الحاجة فانها حذفت المبتدا ولم تقل انا عجوز عقيم واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة لم تذكر غيره واما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن ابراهيم وصرحت بالعجب
وقوله تعالى قالوا كذلك قال ربك متضمن لاثبات صفة القول له وقوله انه هو الحكيم العليم متضمن لاثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والامر فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته وكذلك امره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته
والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال فالعلم يتضمن الحياة و لوازم كمالها من القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام
والحكمة تتضمن كمال الارادة والعدل والرحمة والاحسان والجود والبر ووضع الاشياء في مواضعها على احسن وجوهها ويتضمن ارسال واثبات الثواب والعقاب
كل هذا العلم من اسمه الحكيم كما هي طريقة القران في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة والانكار على من يزعم انه خلق الخلق عبثا وسدى وباطلا فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقدر والثواب
(1/69)
والعقاب ولهذا كان اصح القولين ان المعاد يعلم بالعقل وان السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على اثباته
ومن تامل طريقة القران وجدها دالة على ذلك وانه سبحانه يضرب لهم الامثال المعقولة التي تدل على امكان المعاد تارة ووقوعه اخرى فيذكر ادلة القدرة الدالة على امكان المعاد وادلة الحكمة المستلزمة لوقوعه
ومن تامل ادلة المعاد في القران وجدها كذلك مغنية بحمد الله عن غيرها كافية شافية موصلة الى المطلوب بسرعة متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس
وان ساعد التوفيق كتبت في ذلك سفرا كبيرا لما رايت في الادلة التي ارشد اليها القران من الشقاء والهدى وسرعة الانصاف وحسن البيان والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها بما ينثلج له الصدر ويكثر معه اليقين بخلاف غيره من الادلة فانها على العكس من ذلك وليس هذا موضع التفصيل
والمقصود ان صدور الخلق والامر عن علم الرب وحكمته