|
الثاني عشر: من قوله: (فإن نفس الفعل المأمور به) إلى قوله: (ونحو ذلك من أقسام الموجودات
|
الثاني عشر: من قوله: (فإن نفس الفعل المأمور به) إلى قوله: (ونحو ذلك من أقسام الموجودات
598
زائر
23-11-2015
|
HTML Editor - Full Version
فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ: هُوَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِهِ..
وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ.
وَالْكَلَامُ: خَبَرٌ وَأَمْرٌ؛
وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: الْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
كَمَا يَعْلَمُ أَتْبَاعُ بقراط وَسِيبَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَقَاصِدِهِمَا مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ؛
وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ.
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الصِّفَاتِ..
وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ..
وَلِهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا ..
كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ..
فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ تَشَابُهٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَجْلِهَا الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ، وَلَا حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْغَائِبِ لَا يُفْهَمُ إنْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِدِ وَيُعْلَمُ بِهَا مَا فِي الْغَائِبِ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِمَا فِي الشَّاهِدِ؛
مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْغَيْبِ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْلَمُ فِي الشَّاهِدِ، وَفِي الْغَائِبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ..
فَنَحْنُ إذَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِالْغَيْبِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ: مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَلِمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ وَفَهِمْنَا مَا أُرِيدَ مِنَّا فَهْمُهُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ وَفَسَّرْنَا ذَلِكَ، وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْلَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بَعْدُ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ..
وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْله تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قَالُوا: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ،
وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ قَبْلَهُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَمِنْ اللَّهِ الْبَيَانُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ، فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ،
وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ، وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ،
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ، وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ؛
وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ..
فَمَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
فَنَحْنُ نَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ،
وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا اتَّفَقَتْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَعَانِيهَا، فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، مُتَبَايِنَةٌ مِنْ جِهَةِ الصِّفَاتِ..
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّنْزِيلِ وَالشِّفَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَرَادِفَةِ - لِاتِّحَادِ الذَّاتِ - أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَبَايِنَةِ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ؟
كَمَا إذَا قِيلَ: السَّيْفُ وَالصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ وَقُصِدَ بِالصَّارِمِ مَعْنَى الصَّرْمِ وَفِي الْمُهَنَّدِ النِّسْبَةُ إلَى الْهِنْدِ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ فِي الذَّاتِ مُتَبَايِنَةٌ فِي الصِّفَاتِ..
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ..
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ..
فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ؛ وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ..
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ..
وَالْحُكْمُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْحُكْمُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ..
وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ فَيُقَالُ:
حَكَمْت السَّفِيهَ وَأَحْكَمْته إذَا أَخَذْت عَلَى يَدَيْهِ،
وَحَكَمْت الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتهَا إذَا جَعَلْت لَهَا حَكَمَةً وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْحَنَكِ مِنْ اللِّجَامِ،
وَإِحْكَامُ الشَّيْءِ إتْقَانُهُ،
فَإِحْكَامُ الْكَلَامِ: إتْقَانُهُ بِتَمْيِيزِ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ، وَتَمْيِيزِ الرُّشْدِ مِنْ الْغَيِّ فِي أَوَامِرِهِ،
وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَكِيمًا بِقَوْلِهِ: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ فَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ؛
كَمَا جَعَلَهُ يَقُصُّ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
وَجَعَلَهُ مُفْتِيًا فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ أَيْ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ.
وَجَعَلَهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا فِي قَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ﴾..
وَأَمَّا التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾..
وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾.
فَالتَّشَابُهُ هُنَا: هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ: بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ؛ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلْ يَنْهَى عَنْهُ أَوْ عَنْ نَظِيرِهِ أَوْ عَنْ مَلْزُومَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسْخٌ ..
وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ لَمْ يُخْبِرْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ بَلْ يُخْبِرُ بِثُبُوتِهِ أَوْ بِثُبُوتِ مَلْزُومَاتِهِ..
وَإِذَا أَخْبَرَ بِنَفْيِ شَيْءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ بَلْ يَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي لَوَازِمَهُ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيُثْبِتُ الشَّيْءَ تَارَةً، وَيَنْفِيهِ أُخْرَى، أَوْ يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ..
وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ: فَيَمْدَحُ أَحَدَهُمَا وَيَذُمُّ الْآخَرَ..
فَالْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هُنَا: هِيَ الْمُتَضَادَّةُ.
وَالْمُتَشَابِهَةُ: هِيَ الْمُتَوَافِقَةُ..
وَهَذَا التَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَلْفَاظُ..
فَإِذَا كَانَتْ الْمَعَانِي يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ، وَيَقْتَضِي بَعْضُهَا بَعْضًا: كَانَ الْكَلَامُ مُتَشَابِهًا؛ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ الَّذِي يُضَادُّ بَعْضُهُ بَعْضًا..
فَهَذَا التَّشَابُهُ الْعَامُّ: لَا يُنَافِي الْإِحْكَامَ الْعَامَّ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لَهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا..
بِخِلَافِ الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّ التَّشَابُهِ الْخَاصِّ..
وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ: مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ إنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا؛ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ..
وَهَذَا التَّشَابُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا؛
ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ؛
فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ..
وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ..
كَمَا إذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَشْهَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا فَظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُهُ فَعَلِمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مُشْبِهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ..
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ؛ وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ، إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّبُهَاتِ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ..
فَمَنْ عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ؛
وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ، فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَلَالُ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ التَّشَابُهِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ لَا يَنْضَبِطُ ؛
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ؛
فَالتَّأْوِيلُ: فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ،
وَالْقِيَاسُ: فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ..
وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَالْقِيَاسُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ..
وَقَدْ وَقَعَ بَنُو آدَمَ فِي عَامَّةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ فَظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ فَجَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ مَعَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْعَدَ عَنْ مُمَاثَلَة شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ إيَّاهُ أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ؛
أَوْ حَالًّا فِيهِ مِنْ الْخَالِقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ.. فَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْخَالِقِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا حَتَّى ظَنُّوا وُجُودَهَا وُجُودَهُ؛ فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ضَلَالًا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِبَاهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ، فَرَأَوْا الْوُجُودَ وَاحِدًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ..
وَآخَرُونَ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ التَّشْبِيهُ وَالتَّرْكِيبُ فَقَالُوا: لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَخَالَفُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ:
-إلَى قَدِيمٍ،
-وَمُحْدَثٍ،
- وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودَاتِ.
|
|
|
المادة السابق
| المواد المتشابهة
| المادة التالي
|
|