صفحة جديدة 1
والتحقيق: أنه تارةً يدخل في الاسم، وتارةً يكون لازماً للمُسمّى، بحسب إفراد الاسم
واقترانه؛ فإذا قُرِن (الإيمان) بـ (الإسلام) كان مُسمّى الإسلام خارجاً عنه- كما
في حديث جبريل- وإن كان لازماً له..
وكذلك إذا قُرِن (الإيمان) بـ (العمل) كما في قولـه تعالى:
﴿إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾[البينة:7]؛
فقد يقال: اسم (الإيمان) لم يدخل فيه العمل وإن كان لازماً له.
وقد يقال: بل دخل فيه وعُطِفَ عليه عَطْف الخاص على العام..
وبكل حال؛ فالعمل تحقيق لِمُسمّى الإيمان، وتصديق له..
ولهذا قال طائفة من العلماء- كالشيخ أبي إسماعيل الأنصاري وغيره-: (الإيمان تصديق
كله)؛ فالقلب يُصَدِّق ما جاءت به الرسل، واللسان مُصَدِّق ما في القلب، والعمل
يُصَدِّق القول كما يقال: (صَدّق قولـه عمله).
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان
تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرَّجْل تزنيان وزناهما
الْمَشْي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفَرْج يُصَدِّق ذلك أو يُكَذِّبه»..
والتصديق يُسْتعمَل في الخبر وفي الإرادة؛ فيقال: (فلان صادق العزم)، و(صادق
المحبة)، و(حَمَلُوا حَمْلَة صادقةً).
والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لَمّا أخرجوا العمل من الإيمان وقالوا: (إن الإيمان
يتماثل الناس فيه)؛ ولا ريب أن قولـهم: (يتَسَاوى إيمان الناس) من أفحش الخطأ، بل
لا يتساوى الناس لا في التصديق، ولا في الحُب، ولا في الخشية، ولا في العلم؛ بل
يتفاضلون من وجوه كثيرة.
وأيضاً فإخراجهم العمل يُشْعِر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضاً، وهذا باطل قطعاً؛
فإن مَنْ صَدّق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعاً بالضرورة، وإن
أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضاً؛ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير
حركة بدن.
وليس المقصود هنا ذِكْر كل معين؛ بل مَنْ كان مؤمناً بالله ورسوله بقلبه هل
يُتَصَوّر إذا رأى الرسول وأعداؤه يُقاتِلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على
نَصْر الرسول بما لا يضره هل يمكن مثل هذا في العادة ألا يكون منه حركة ما إلى
نَصْر الرسول؟ فمن المعلوم أن هذا ممتنع؛ فلهذا كان الجهاد المتعين بحسب الإمكان من
الإيمان، وكان عدمه دليلاً على انتفاء حقيقة الإيمان، بل قد ثَبَت في الصحيح عنه
صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مات ولم يغزُ ولم يُحَدِّث نفسه بالغزو مات على شُعْبة
نفاق» وفي الحديث دلالة على أنه يكون فيه بعض شُعَب النفاق مع ما معه من الإيمان..
ومنه قولـه تعالى:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ﴾[الحجرات:15]..
وأيضاً فَقَد ثَبَتَ في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ رأى
منكم مُنْكراً فَلْيُغَيّره بيده، فإن لم يستطع فَبِلِسَانه، فإن لم يستطع
فَبِقَلْبِه وذلك أضعف الإيمان»..
وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»..
فهذا يُبَيِّن أن القلب إذا لم يكن فيه بُغْض ما يكرهه الله من الْمُنكرات كان
عادماً للإيمان، والبُغْض والحُب من أعمال القلوب.
ومن المعلوم أن إبليس ونحوه يعلمون أن الله عز وجل حَرّم هذه الأمور ولا يبغضونها،
بل يَدْعون إلى ما حَرّمه الله ورسوله.
وأيضاً فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صَرّحوا بأن سَبّ الله ورسوله،
والتَّكَلُّم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكُفر؛ ليس هو كفراً في الباطن، ولكنه
دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا السَّبَّاب الشاتم في الباطن
عارفاً بالله، مُوَحِّداً له، مؤمناً به، فإذا أقيمت عليهم حُجة بِنَصٍّ أو إجماع
أن هذا كافر باطناً وظاهراً قالوا: (هذا يقتضي أن ذلك مُستلزِم للتكذيب الباطن، وأن
الإيمان يستلزم عدم ذلك..
فيقال لهم: معنا أمران معلومان:
أحدهما: معلوم بالاضطرار من الدين.
والثاني: معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل.
أما الأول: فإنّا نعلم أن مَنْ سَبّ الله ورسوله طوعاً بغير كُرْه، بل مَنْ
تَكَلَّم بكلمات الكفر طائعاً غير مُكْرَه، ومَنْ استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو
كافر باطناً وظاهراً، وأنّ مَنْ قال: (إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله
وإنما هو كافر في الظاهر) فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين.
وقد ذَكَر الله تعالى كلمات الكفار في القرآن وحَكَم بِكُفْرهم واستحقاقهم الوعيد،
ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط
فيه الْمُقِرّ لم يجعلهم الله عز وجل من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صِدْقاً
وقد تكون كَذِباً، بل كان ينبغي أن لا يُعَذِّبهم إلا بشرط صِدْق الشهادة، وهذا
كقولـه تعالى:
﴿لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾[المائدة:73]،
﴿لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾[المائدة:17]،
وأمثال ذلك.
وأما الثاني: فالقلب إذا كان مُعتقداً صِدْق الرسول وأنه رسول الله، وكان مُحِباً
للرسول، مُعَظِّماً له امتنع مع هذا أن يلعنه ويَسُبّه، بل لا يُتَصَوَّر ذلك منه
إلا مع نوع من الاستخفاف به وبِحُرْمته، فعُلِمَ بذلك أن مجرد اعتقاده أنه صادق لا
يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب.
وأيضاً فإن الله تعالى قال:
﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ﴾[النساء:51]
وقال تعالى:
﴿فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى﴾[البقرة:256]..
فَتَبَيّن أن الطاغوت يُؤْمَن به ويُكْفَر به.
ومعلوم أن مجرد التصديق بوجوده وما هو عليه من الصفات يشترك فيه المؤمن والكافر؛
فإن الأصنام والشيطان والسحر يشترك في العلم بحاله المؤمن والكافر.
وقد قال الله تعالى في السحر:
﴿حَتَّى
يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾[البقرة:102]
الآية، فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على مُلْك سليمان، وَنَبَذوا كتاب
الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون يعلمون أنه لا خلاق لهم في الآخرة ومع هذا
يكفرون.
وكذلك المؤمن بالجبت والطاغوت إذا كان عالماً بما يحصل بالسحر من التفريق بين المرء
وزوجه ونحو ذلك من الجبت، وكان عالماً بأحوال الشيطان والأصنام وما يحصل بها من
الفتنة لم يكن مؤمناً بها مع العلم بأحوالها.
ومعلوم أنه لم يعتقد أحد فيها أنها تخلق الأعيان، وأنها تفعل ما تشاء، ونحو ذلك من
خصائص الربوبية، ولكن كانوا يعتقدون أنه يحصل بعبادتها لهم نوع من الْمَطالب كما
كانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام وتخبرهم بأمور.
وكما يوجد مثل ذلك في هذه الأزمان في الأصنام التي يعبدها أهل الهند والصين
والتُّرك ونحوهم.
وكان كُفْرهم بها: الخضوع لها، والدعاء، والعبادة، واتخاذها وسيلة ونحو ذلك، لا
مجرد التصديق بما يكون عند ذلك من الآثار، فإن هذا يعلمه العالم من المؤمنين
ويُصَدِّق بوجوده، لكنه يعلم ما يترتب على ذلك من الضرر في الدنيا والآخرة فيبغضه.
والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حُب العاجلة على الكفر..
بَيَّن ذلك قولـه تعالى:
﴿مَنْ
كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[النحل:106]
﴿ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[النحل:107]
﴿أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[النحل:108]
﴿لا
جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[النحل:109]
فقد ذَكَر تعالى مَنْ كَفَرَ بالله من بعد إيمانه، وَذَكَرَ وعيده في الآخرة.
ثم قال:
﴿ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾[النحل:107]؛
وَبَيَّن تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا.
ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض..
وهؤلاء يقولون: (إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم)، وإن كان
ذلك قد يكون سببه حُب الدنيا على الآخرة، والله تعالى جعل استحباب الدنيا على
الآخرة هو الأصل الْمُوجِب للخُسْران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم
والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.
وأيضاً فإنه سبحانه وتعالى استثنى الْمُكْرَه من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا
بتكذيب القلب وجهله لم يَسْتَثْنِ منه الْمُكْرَه؛ لأن الإكراه على ذلك مُمتنع،
فَعُلِمَ أن التَّكَلُّم بالكُفْر كُفْر إلا في حال الإكراه.
وقولـه تعالى:
﴿وَلَكِنْ
مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾[النحل:106]
أي لاستحبابه الدنيا على الآخرة..
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً، ويُمسي
مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا»..
والآية نزلت في عمار بن
ياسر، وبلال بن رباح، وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لَمّا أَكْرَهَهُم المشركون
على سَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم مَنْ أجاب
بلسانه كـ (عَمّار)، ومنهم مَنْ صَبَرَ على المحنة كـ (بلال)، ولم يُكْرَه واحد
منهم على خلاف ما في قلبه، بل أُكْرِهوا على التَّكَلُّم به، فَمَنْ تَكَلّم بدون
الإكراه لم يَتَكَلَّم به إلا وصدره منشرح به.
وأيضاً فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد إنك رسول الله، ولم يكونوا
مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم- أي نعلم ونجزم أنك
رسول الله- قال: «فَلِمَ لا تتبعوني؟» قالوا: نخاف من يهود..
فَعُلِمَ
أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن
للالتزام والانقياد مع تَضَمُّن ذلك للإخبار عما في أنفسهم.
فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين فكانوا كفاراً في الباطن، وهؤلاء قالوها غير
ملتزمين ولا منقادين فكانوا كفاراً في الظاهر والباطن.
وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد عنه: (ولقد علمت بأن
دين محمد من خير أديان البرية ديناً) لكن امتنع من الإقرار بالتوحيد والنبوة حُبّاً
لدين سَلَفِه وكراهة أن يُعَيّره قومه، فَلَمّا لم يَقْتَرِن بِعِلمه الباطن الحب
والانقياد الذي يمنع ما يضاد ذلك من
حب الباطل وكراهة الحق لم يكن مؤمناً.
وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد
مَنَعَ من حُب الله وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار في القلب من
كراهة رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كُفْراً لا ينفع معه العلم.