صفحة جديدة 3
فصل
والتفاضل في الإيمان بدخول زيادة الإيمان والنَّقْص فيه يكون من وجوه متعددة:
أحدها: الأعمال الظاهرة؛ فإن الناس يتفاضلون فيها وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس
على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مُسمى الإيمان.
فالنُّفَاة يقولون: هو من ثمرات
الإيمان ومُقتضاه، فَأُدْخِلَ فيه مجازاً بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان
عندهم ونقصه- أي زيادة ثمراته ونقصانها- فيقال: قد تَقَدّم أن هذا من لوازم الإيمان
ومُوجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه
لازماً أو جزءاً منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ (الإيمان) مفرداً أو مقروناً
بلفظ (الإسلام) و(العمل) كما تقدم.
وأما قولـهم: (الزيادة في العمل الظاهر لا في موجِبه ومُقتضيه) فهذا غلط؛ فإن
تفاضُل معلول الأشياء ومُقتضاها يقتضي تفاضلها في أنفسها، وإلا فإذا تماثَلت
الأسباب الْمُوجِبة لَزِم تَماثُل مُوجَبِها ومُقتضاها، فَتَفَاضُل الناس في
الأعمال الظاهرة يقتضي تفاضلهم في مُوجِب ذلك ومُقتَضِيه..
ومن هذا يَتبَيّن الوجه الثاني في زيادة الإيمان ونَقْصِه: وهو زيادة أعمال القلوب
ونَقْصها، فإنه من المعلوم بالذوق- الذي يجده كل مؤمن- أن الناس يتفاضلون في حُب
الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة
القلوب من الرياء والكِبْر والعُجْب ونحو ذلك، والرحمة للخَلْق والنُّصْح لهم ونحو
ذلك من الأخلاق الإيمانية..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث مَنْ كُنّ فيه وَجَدَ حلاوة
الإيمان؛ مَنْ كان الله ورسوله أَحَبًّ إليه مما سواهما، ومَنْ كان يُحب المرء لا
يحبه إلا لله، ومَنْ كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن
يُلْقَى في النار».
وقال تعالى:
﴿قُلْ
إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ
فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾[التوبة:24]..
وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده».
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أَحَبّ إليه من ولده ووالده
والناس أجمعين».
وقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أَحَبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي قال: «لا يا
عمر، حتى أكون أَحَبَّ إليك من نفسك» قال: فلأنت أحب إليّ من نفسي قال: «الآن يا
عمر»..
وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح..
وفيها بيان تَفَاضُل الحُب والخشية..
وقد قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[البقرة:165]..
وهذا أَمْر يجده الإنسان في نفسه؛ فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما
يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة؛ ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس
قولاً بدخول الزيادة والنقصان فيه؛ لِمَا يجدون من ذلك في أنفسهم..
ومن هذا قولـه تعالى:
﴿الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل
عمران:173]
وإنما زادهم طمأنينة وسكوناً.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً»..
الوجه الثالث: أن نَفْس التصديق والعلم الذي في القلب يَتَفَاضل باعتبار الإجمال
والتفصيل؛ فليس تصديق مَنْ صَدّق الرسول مُجمَلاً من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره
كمَنْ عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته والجنة والنار
والأمم وصَدَّقه في ذلك كله، وليس مَنْ التزم طاعته مُجْمَلاً ومات قبل أن يعرف
تفصيل ما أَمَرَه به كَمَنْ عاش حتى عرف ذلك مُفَصّلاً وأطاعه فيه.
الوجه الرابع: أن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي من
القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام؛ بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض
ونحو ذلك، فإذا كانت القدرة على الشيء تتفاوت فكذلك الإخبار عنه يتفاوت..
وإذا قال القائل: (العلم بالشيء الواحد لا يتفاضل) كان بمنزلة قولـه: (القدرة على
المقدور الواحد لا تتفاضل)، وقولـه: (ورؤية الشيء الواحد لا تتفاضل)..
ومن المعلوم أن الهلال المرئي يتفاضل الناس في رؤيته، وكذلك سَمْع الصوت الواحد
يتفاضلون في إدراكه، وكذلك الكلمة الواحدة يتكلم بها الشخصان ويتفاضلون في النطق
بها، وكذلك شَمّ الشيء الواحد وذَوْقه يتفاضل الشخصان فيه..
فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته وحركاته- بل وصفات غير الحي- إلا
وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر، حتى يقال: ليس أحد من المخلوقين
يعلم شيئاً من الأشياء مثل ما يعلمه الله من كل وجه، بل عِلْم الله تعالى بالشيء
أكمل من عِلْم غيره به كيف ما قُدِّر الأمر، وليس تفاضل العِلْميْن من جهة الحدوث
والقِدَم فقط؛ بل من وجوه أخرى.
والإنسان يجد في نفسه أن عِلمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه كما يتفاضل حاله في سَمْعه
لمسموعه، ورؤيته لمرئيه، وقدرته على مقدوره، وحُبّه لمحبوبه، وبُغْضه لبَغِيضه،
ورضاه لمرضيه، وسَخَطه بمسخوطه، وإرادته لمراده، وكراهيته لمكروهه، ومَنْ أَنْكَر
التفاضل في هذه الحقائق كان مُسَفْسِطاً.
الوجه
الخامس: أن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها؛ فمَنْ كان
مُسْتَنَد تصديقه ومحبته أدلة تُوجِب اليقين وتُبَيّن فساد الشُّبْهة العارضة لم
يكن بمنزلة مَنْ كان تصديقه لأسباب دون ذلك، بل مَنْ حصل له علوم ضرورية لا يمكنه
دَفْعها عن نفسه لم يكن بمنزلة مَنْ تُعارضه الشًّبَه ويريد إزالتها بالنظر
والبحث..
ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها وبفساد الشُّبَه الْمُعارِضة لذلك
وبيان بُطلان حجة المحتج عليها ليس كالعلم الذي هو الحاصل عن دليل واحد من غير أن
يعلم الشُّبَهة الْعارِضة له؛ فإن الشيء كلما قويت أسبابه وتعددت وانقطعت موانعه
واضْمَحَلّت كان أوجب لكماله وقوته وتمامه.
الوجه السادس: أن التفاضل يحصل في هذه الأمور من جهة دوام ذلك وثَبَاته وذِكْره
واستحضاره كما يحصل البُغض من جهة الغفلة عنه والإعراض والعلم والتصديق والحب
والتعظيم وغير ذلك..
فما في القلب هي صفات وأعراض وأحوال تدوم وتحصل بدوام أسبابها وحصول أسبابها.
والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحقيقه، والعالِم بالشيء في حال غفلته عنه
حاله فيه دون حال العالِم بالشيء في ذِكْره له..
قال عمير بن حبيب الخطمي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان يزيد وينقص).
قالوا: وما زيادته ونَقْصه؟
قال: إذا
حمدنا الله وذكرناه وسَبّحناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا ونسينا وضَيّعنا فذلك
نُقْصانه.
الوجه السابع: أن يقال: ليس فيما يقوم بالإنسان من جميع الأمور أعظم تفاضلاً
وتفاوتاً من الإيمان، فكُلما تقرر إثباته من الصفات والأفعال مع تفاضُله فالإيمان
أعظم تفاضلاً من ذلك.
مثال
ذلك: أن الإنسان يعلم من نفسه تفاضل الحب الذي يقوم بقلبه سواء كان حباً لولده، أو
لامرأته، أو لرياسته، أو وطنه، أو صديقه، أو صورة من الصور، أو خَيْله، أو بُستانه،
أو ذَهَبه، أو فضته وغير ذلك من أمواله..
فكما أن الحب أوله علاقة لِتَعَلّق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب نحوه،
ثم غرام للزومه القلب كما يلزم الغريم غريمه، ثم يصير عشقاً، إلى أن يصير
تَتَيُّماً- والتَّتَيُّم: التَّعَبُّد، وَتَيْم الله: عَبْد الله-؛ فيصير القلب
عبداً للمحبوب، مُطيعاً له، لا يستطيع الخروج عن أَمْره..
وقد آل الأمر بكثير من عُشّاق الصور إلى ما هو معروف عند الناس مثل مَنْ حَمَلَه
ذلك على قَتْل
نفسه، وقَتْل معشوقه، أو الكُفر، والرِّدَّة عن الإسلام، أو أفضى به إلى الجنون
وزوال العقل، أو أوجب خروجه عن المحبوبات العظيمة من الأهل والمال والرياسة أو أمرض
جسمه وأضناه..
فَمَنْ قال: (الحب لا يزيد ولا ينقص) كان قولـه من أظهر الأقوال فساداً..
ومعلوم أن الناس يتفاضلون في حب الله أعظم من تفاضلهم في حب كل محبوب؛ فهو سبحانه
اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ محمداً خليلاً،كما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً؛ ولكن صاحبكم خليل
الله» يعني نفسه صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً».
والخُلّة أخص من مطلق المحبة..
فإن الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يحبون الله ويحبهم الله كما قال تعالى:
﴿فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[المائدة:54]..
وقال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[البقرة:165]..
وقد أَخْبَر الله تعالى أنه يحب المتقين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب
المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص..
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بحُبه لغير واحد كما ثَبت عنه صلى الله عليه
وسلم في الصحيح أنه قال للحسن وأسامة: «اللهم إني أحبهما فأحبهما وأَحِب مَنْ
يُحبهما»..
وقال له عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قال: فَمِنْ الرجال؟ قال:
«أبوها».
وقال للأنصار: «والله إني لأحبكم»..
والناس في حُب الله يتفاضلون ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم
إلى أدنى الناس درجة، مثل مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وما بين هذين
الحَدّين من الدرجات لا يحصيه إلا
الله رب السموات والأرض، فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على بعض كبني
آدم؛ فإن الفرس الواحدة ما تبلغ أن تساوي ألف ألف..
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر أنه كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم
إذ مَرّ به رجل من أشراف الناس فقال: «يا أبا ذر! أتعرف هذا؟» قلت: نعم يا رسول
الله، هذا حري إن خطب أن يُنْكَح، وإن قال يُستمَع لقولـه، وإن غاب أن يُسْأَل عنه،
ثم مَرّ برجل من ضعفاء المسلمين فقال: «يا أبا ذر! أتعرف هذا؟» قلت: نعم يا رسول
الله، هذا رجل من ضعفاء الناس، هذا حري إن خطب ألا يُنْكَح، وإن قال ألا يُسْتمَع
لقولـه، وإن غاب لا يُسْأَل عنه، فقال: «يا أبا ذر! هَذَا خير من مِلء الأرض من
هذا»..
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الذي لا يجازف فيما يقول: أن الواحد من
بني آدم يكون خيراً من ملء الأرض من الآدميين، وإذا كان الواحد منهم أفضل من
الملائكة والواحد منهم شر من البهائم كان التفاضل الذي فيهم أعظم من تفاضل
الملائكة، وأصل تفاضلهم إنما هو بمعرفة الله ومحبته، فَعُلِمَ أن تفاضلهم في هذا لا
يضبطه إلا الله تعالى، وكل ما يُعْلَم من تفاضلهم في حُب الشيء من محبوباتهم
فتفاضلهم في حب الله أعظم.