صفحة جديدة 2
وقد ذَكَر أيضاً في «المقالات» جملة قول أصحاب الحديث وأهل السُّنة؛ قال: جملة ما
عليه أصحاب الحديث وأهل السُّنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء
من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يَرُدّون من ذلك
شيئاً، وأن الله إله واحد فرد صَمَد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده
ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَنْ
في القبور، وأن الله على عرشه كما قال:
﴿الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه:5]،
وأن له يدين بلا كيف كما قال:
﴿خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ﴾[ص:75]،
وكما قال:
﴿بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾[المائدة:64]،
وأن له عينين كما قال:
﴿تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَا﴾[القمر:14]،
وأن له وجهاً كما قال:
﴿وَيَبْقَى
وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن:27]،
وأن أسماء الله لا يقال: (إنها غير الله) كما قالت المعتزلة والخوارج..
إلى أن قال: ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ بدعة،
مَنْ قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم، لا يقال: (اللفظ بالقرآن مخلوق) ولا
يقال: (غير مخلوق)..
إلى أن قال: ولا يُكَفِّرون أحداً من أهل القِبْلة بِذَنْب يرتكبه: كنحو الزنا،
والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهُم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا
الكبائر.
والإيمان عندهم: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره حلوه
ومُرّه، وأنّ ما أخطأهم لم يكن ليُصيبهم، وأنّ ما أصابهم لم يكن ليُخطئهم.
والإسلام هو: أن تشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير
الإيمان..
إلى أن قال: ويُقِرّون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون: (مخلوق ولا
غير مخلوق)..
وذَكَر كلاماً طويلاً ثم قال في آخره: (وبكل ما ذكرنا من قولـهم نقول، وإليه نذهب)؛
فهذا قولـه في هذا الكتاب وافق فيه أهل السُّنة وأصحاب الحديث بخلاف القول الذي
نَصَرَه في «الموجز».
والمقصود هنا: أن عامة فِرَق الأمة تُدْخِل ما هو من أعمال القلوب، حتى عامة فِرَق
المرجئة تقول بذلك، وأما المعتزلة والخوارج وأهل السُّنة وأصحاب الحديث فقولـهم في
ذلك معروف، وإنما نَازَع في ذلك مَن اتّبع جهم بن صفوان من المرجئة وهذا القول شاذ
كما أن قول الكرّامية الذين يقولون: (هو مجرد قول اللسان) شاذ أيضاً..
وهذا مما ينبغي الاعتناء به، فإن كثيراً ممَّنْ تَكَلَّم في مسألة الإيمان (هل
تَدْخُل فيه الأعمال؟ وهل هو قول وعمل؟) يظن أن النزاع إنما هو في أعمال الجوارح،
وأن المراد بالقول (قول اللسان) وهذا غلط؛ بل القول المجرد عن اعتقاد الإيمان ليس
إيماناً باتفاق المسلمين إلا مَنْ شذ من أتباع ابن كَرّام، وكذلك تصديق القلب الذي
ليس معه حب لله ولا تعظيم بل فيه بُغْض وعداوة لله ولرسله ليس إيماناً باتفاق
المسلمين.
فليس مجرد التصديق بالباطن هو الإيمان عند عامة المسلمين إلا مَنْ شَذّ من أتباع
جهم والصالحي.
وفي قولـهما من السفسطة العقلية والمخالَفة في الأحكام الدينية أعظم مما في قول ابن
كرّام.
وقول ابن كرام فيه مُخالَفة في الاسم دون الحُكم فإنه- وإن سَمّى المنافقين
مؤمنين- يقول: (إنهم مُخَلَّدون في النار) فيُخَالِف الجماعة في الاسم دون الحُكم.
وأتباع جهم يُخالِفون في الاسم والحُكم جميعاً.
فصل
إذا عُرِف أن أَصْل الإيمان في القلب فاسم (الإيمان) تارةً يُطْلَق على ما في
القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك؛
وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة لوازمه ومُوجَباته ودلائله، وتارةً على ما
في القلب والبدن جَعْلاً لِمُوجَب الإيمان ومقتضاه داخلاً في مُسَمَّاهُ..
وبهذا يَتَبَيَّن أن الأعمال الظاهرة تُسمّى (إسلاماً)، فإنها تدخل في مُسَمَّى
الإيمان تارةً، ولا تدخل فيه تارةً.
وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران:
- فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين.
- وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما..
كـ (لفظ الفقير
والمسكين):
- إذا أُفْرِدَ أحدهما تناول الآخر.
- وإذا جُمِع بينهما كان لكل واحد منهما مُسَمّى يخصه.
وكذلك (لفظ المعروف والمنكر):
- إذا أُطْلِقا- كما في قولـه تعالى:
﴿يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[الأعراف:157]-
دخل فيه الفحشاء والبَغْي.
- وإذا قُرِنَ بالمنكر أحدهما كما في قولـه:
﴿إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[العنكبوت:45]،
أو كلاهما كما في قولـه تعالى:
﴿وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾[النحل:90]
كان اسم (المنكر) مُختصاً بما خَرَجَ عن ذلك (على قول)، أو متناولاً للجميع (على
قول)؛ بناء على أن الخاص المعطوف على العام هل يمنع شمول العام له؟ أو يكون قد
ذُكِرَ مرتين (فيه نزاع)
والأقوال والأعمال الظاهرة مُوجَب الأعمال الباطنة ولازمها.
وإذا أُفْرِدَ اسم (الإيمان) فقد يتناول هذا وهذا كما في قول النبي صلى الله عليه
وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة
الأذى عن الطريق»؛ وحينئذ فيكون (الإسلام) داخلاً في مُسَمَّى (الإيمان) وجُزءاً
منه؛ فيقال حينئذ: إن (الإيمان) اسم لجميع الطاعات الظاهرة والباطنة.
ومنه: قولـه صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما
الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،
وأن تؤدوا خُمُسَ المغنم» أخرجاه في الصحيحين..
فَفَسّر (الإيمان) هنا بما فُسِّرَ به (الإسلام)؛ لأنه أراد بالشهادتين هنا (أن
يشهد بهما باطناً وظاهراً)، وكان الخطاب لوفد عبد القيس، وكانوا من خيار الناس، وهم
أول مَنْ صَلّى الجمعة ببلدهم بعد جمعة أهل المدينة كما قال ابن عباس: «أول جمعة
جُمِعَت في الإسلام بعد جُمعة المدينة جمعة بجواثى» (جُؤاثَى)- قرية من قُرى
البحرين-..
وقالوا: «يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، وإنّا لا نصل إليك
إلا في شهر حرام، فَمُرنا بِأَمْر فَصْل نعمل به وندعو إليه مَنْ وراءنا» وأرادوا
بذلك أهل نجد من تميم، وأسد، وغطفان، وغيرهم كانوا
كفاراً..
فهؤلاء كانوا صادقين راغبين في طلب الدين، فإذا أَمَرَهم النبي صلى الله عليه وسلم
بأقوال وأعمال ظاهرة فعلوها باطناً وظاهراً، فكانوا بها مؤمنين.
وأما إذا قُرِنَ (الإيمان) بـ (الإسلام) فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر كما في
الْمُسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام علانية، والإيمان في
القلب»..
والإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر
خيره وشره، ومتى حصل له هذا الإيمان وَجَبَ ضرورة أن يحصل له الإسلام؛ الذي هو
الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته ورسله
يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمِن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار
والحب والانقياد باطناً ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القُدرة عليه، كما يمتنع وجود
الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.
وبهذا تعرف أن مَنْ آمَن قلبه إيماناً جازماً امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع
القُدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مُستلزِم انتفاء الإيمان القلبي التام..
وبهذا يظهر خطأ جهم ومَنْ اتّبعه في زعمهم أن مجرد إيمان القلب بدون الإيمان الظاهر
ينفع في الآخرة؛ فإن هذا ممتنع؛ إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في
الظاهر مُوجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حباً جازماً وهو
قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك.
وأبو طالب إنما كانت محبته للنبي صلى الله عليه وسلم لقرابته منه لا لله، وإنما
نَصَره وَذَبَّ عنه لحمية النَّسَب والقرابة؛ ولهذا لم يتقبل الله ذلك منه، وإلا
فلو كان ذلك عن إيمان في القلب لتَكَلّم بالشهادتين ضرورة، والسبب الذي أوجب نَصْره
للنبي صلى الله عليه وسلم- وهو الحمية- هو الذي أوجب امتناعه من الشهادتين..
بخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ونحوه قال الله تعالى:
﴿وَسَيُجَنَّبُهَا
الأَتْقَى﴾[الليل:17]
﴿الَّذِي
يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾[الليل:18]
﴿وَمَا
لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾[الليل:19]
﴿إِلَّا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾[الليل:20]
﴿وَلَسَوْفَ
يَرْضَى﴾[الليل:21]
ومنشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه:
أحدها: أن العلم والتصديق مُستلزِم لجميع موجِبات الإيمان.
الثاني: ظن الظان أن ما في القلب لا يتفاضل الناس فيه.
الثالث: ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل
الظاهر عنه.
الرابع: ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق، وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح.
والصواب:
أن القلب له عمل مع التصديق.
والظاهر: قول ظاهر، وعمل ظاهر؛ وكلاهما مُستلزِم للباطن.
والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمَنْ قَصَد منهم إخراج أعمال القلوب
أيضاً وجَعَلَها هي التصديق فهذا ضلال بَيِّن، ومَنْ قَصَدَ إخراج العمل الظاهر قيل
لهم: (العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه)، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء
الباطن..
فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مُسَمّى الإيمان يدل عليه بالتضمن؟ أو
هو لازم لمسمى الإيمان؟