صفحة جديدة 2
النَّوع الثَّالث عشر: الشَّاذ
هو عند الشَّافعيِّ وجَماعَةٍ من عُلماء الحِجَاز: ما رَوَى الثِّقة مُخَالِفًا
لرواية النَّاس، لا أن يروي ما لا يروي غيره، قال الخَليليُّ: والَّذي عليه حُفَّاظ
الحديث: أنَّ الشَّاذ ما ليسَ لهُ إلا إسْنادٌ واحدٌ يشذُّ به ثقةٌ أو غيرُهُ، فما
كانَ عن غير ثقة فمتروكٌ، وما كانَ عن ثِقة تُوقِّف فيه، ولا يُحتجُّ به، وقال
الحاكم: هو ما انفردَ به ثقةٌ وليسَ له أصل بمتابعٍ
ومَا ذكراهُ مُشْكِلٌ بأفراد العَدْلِ الضَّابط، كحديث: «إنَّمَا الأعْمَالُ
بالنِّيَّات...» والنَّهي عن بَيْعِ الولاء، وغير ذلك مِمَّا في الصَّحيح،
فالصَّحيح التَّفصيل: فإن كان بتَفَرُّده مُخَالفًا أحفظ منهُ وأضْبطَ كان شاذًّا
مردودًا.
وإن لم يُخَالَف الرَّاوي، فإن كانَ عَدْلاً حافظًا مَوْثوقًا بضبطهِ كانَ تَفَرّده
صحيحًا، وإن لم يُوثق بضبطهِ، ولم يَبْعُد عن درجة الضَّابط كان حَسَنًا، وإنْ
بَعُدَ كانَ شاذًّا مُنكرًا مَردودًا، والحاصل أنَّ الشَّاذ المردود هو الفرد
المُخَالِف، والفرد الَّذي ليسَ في رُواته من الثِّقة والضَّبط ما يُجْبَرُ به
تَفرُّدهُ.
النوع الرَّابع عشر: مَعْرفةُ المُنْكر
قال الحافظُ البَرْديجي: هو الفَرْدُ الَّذي لا يُعرف متنهُ عن غير رَاويهِ، وكذا
أطلقهُ كثيرون، والصَّواب فيه التَّفصيلُ الَّذي تقدَّم في الشَّاذ.
النَّوع الخامس عشر: معرفةُ الاعتبارِ والمُتَابعاتِ والشَّواهدِ
هذه أُمورٌ يتعَرَّفُون بها حَال الحديث..
فمثالُ الاعْتبار: أن يَرْوي حمَّاد مثلاً حديثًا لا يُتَابَع عليه، عن أيُّوب عن
ابن سيرين عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فيُنْظَر
هل رواهُ ثقةٌ غير أيُّوب عن ابن سِيرين، فإن لم يُوجد، فغيرُ ابن سِيرين عن أبي
هُرَيْرة، وإلاَّ فصَحَابي غير أبي هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأي
ذلكَ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ لهُ أصْلاً يُرجع إليه، وإلاَّ فلا.
والمُتَابعةُ: أن يَرْويهُ عن أيُّوب غير حمَّاد، وهي المُتَابعة التَّامة، أو عن
ابن سيرين غير أيُّوب، أو عن أبي هُرَيْرة غير ابن سيرين، أو عن النَّبي صلى الله
عليه وسلم صحابي آخر، فكلُّ هذا يُسمَّى مُتَابعة، وتَقْصُر عن الأولى بِحَسب
بُعْدها منها، وتُسمَّى المتابعة شاهدًا.
والشَّاهد: أن يُروى حديث آخر بمعناهُ، ولا يُسمَّى هذا مُتَابعة
قد يُسمَّى الشَّاهد متابعة أيضًا، والأمر سهل، مثالُ ما اجتمع فيه المُتَابعة
التَّامة والقاصرة، والشَّاهد ما رواهُ الشَّافعي في «الأم» عن مالك، عن عبد الله
بن دينار، عن ابن عُمر، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشَّهر تِسْعٌ
وعشرون، فلا تَصُومُوا حتَّى تَرُوا الهِلاَل، ولا تُفطرُوا حتَّى تروهُ، فإن غُم
عليكُم فأكملُوا العِدَّة ثلاثين».
فهذا الحديث بهذا اللَّفظ، ظنَّ قومٌ أنَّ الشَّافعي تفرَّد به عن مالك، فعدُّوه في
غرائبه، لأنَّ أصحاب مالك رَووهُ عنه بهذا الإسناد بلفظ: «فإن غُمَّ عليكُم
فاقدرُوا لهُ».
لكن وجدنا للشَّافعي مُتابعًا، وهو عبد الله بن مَسْلمة القَعْنَبي، كذلك أخرجه
البُخَاري عنه عن مالك، وهذه مُتابعة تامة.
ووجدنا له مُتَابعة قاصرة في «صحيح» ابن خزيمة من رواية عاصم بن محمَّد، عن أبيه
محمَّد بن زيد، عن جدِّه عبد الله بن عُمر: «فأكملُوا ثلاثين»
وفي «صحيح»مسلم من رِوَاية عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عُمر بلفظ:
«فاقدُروا ثلاثين».
وإذا قَالُوا في مِثْله: تفرَّد به أبو هُرَيْرة، أو ابن سِيرين، أو أيُّوب، أو
حمَّاد، كان مُشْعرًا بانتفاء المُتَابعات، وإذا انْتَفت مع الشَّواهد فحُكْمهُ ما
سبقَ في الشَّاذ، ويدخل في المُتَابعة والاسْتِشْهَاد رواية مَنْ لا يُحتجُّ به،
ولا يصلح لذلك كلُّ ضعيفٍ.
النَّوع السَّادس عشر: معرفةُ زيادَاتِ الثِّقَات وحُكمُهَا
وهو فنٌّ لطيفٌ تُسْتَحسنُ العِنَايةُ بهِ، ومذهبُ الجمهُور من الفُقَهاء
والمُحدِّثين قَبُولها مُطْلقًا، وقيلَ: لا تقبلُ مُطْلقًا، وقيلَ: تُقبل إن
زَادهَا غير مَنْ رواهُ نَاقصًا، ولا تُقبل مِمَّن رواهُ مَرَّة نَاقصًا.
وقَسّمهُ الشَّيخ أقْسَامًا:
أحدُها: زيادةٌ تُخَالف الثِّقات، فَتُرَدّ كما سَبقَ.
الثَّاني: مَا لا مُخَالفة فيه، كتفرُّد ثقة بجُملة حديث فيُقْبل، قال الخَطِيب:
باتِّفاق العُلماء.
الثَّالث: زيادةُ لَفْظة في حديث لم يذكرهَا سَائر رُواته، كحديث: «جُعلت ليَ
الأرضُ مَسْجدًا وطَهُورًا». انفرد أبو مالك الأشْجَعي فقال: «وتُرْبتها طَهُورًا».
فهذا يُشْبهُ الأوَّل، ويُشبه الثَّاني، كذا قال الشَّيخ، والصَّحيح قَبُول هذا
الأخير، ومثَّله الشَّيخ أيضًا بزيادةِ مالك في حديث الفِطْرة: «من المُسْلمين» ولا
يصح التَّمثيل به، فقد وافقَ مَالكًا عُمر بن نافع، والضحَّاك بن عُثمان.
النَّوع السَّابع عشر: معرفةُ الأفراد
تَقَدَّم مَقْصُوده، فالفردُ قِسْمان:
أحدُهُما: فردٌ عن جميع الرُّواة وتقدَّم.
والثَّاني: بالنِّسبة إلى جهةٍ، كقولهم: تَفَرَّد به أهل مكَّة والشَّام، أو فلانٌ
عن فلانٌ، أو أهل البَصْرة عن أهل الكُوفة وشِبهه، ولا يَقْتضي هذا ضَعْفهُ إلاَّ
أن يُرَاد بتفرُّد المَدَنيين انفراد واحدٍ منهُم، فيكُون كالقِسْم الأوَّل.
النَّوع الثَّامن عشر: المُعَلَّل
ويُسمُّونه المَعْلُول وهو لحنٌ، وهذا النَّوع من أجَلِّها يتمكَّن منهُ أهل
الحِفْظ والخِبْرة والفَهْمِ الثَّاقب.
ولهذا لم يتكلَّم فيه إلاَّ القليل، كابن المَدِيني، وأحمد، والبُخَاري، ويعقُوب بن
شَيْبة، وأبي حاتم، وأبي زُرْعة، والدَّارقُطْني.
وقال ابن مَهْدي: لأن أعرف عِلَّة حديث أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثًا ليسَ عندي.
والعِلَّةُ عِبَارةٌ عن سببٍ غامض قادحٍ، مع أنَّ الظَّاهر السَّلامة منهُ،
ويتطرَّق إلى الإسْنَاد الجامع شُروط الصِّحَّة ظَاهرًا، وتُدْرك بِتَفرُّد
الرَّاوي، وبمُخَالفة غيره لهُ، مع قرائن تُنبَّه العَارف على وهْمٍ بإرْسَالٍ، أو
وَقْف أو دُخُول حديثٍ في حديثٍ أو غير ذلك، بحيث يَغْلبُ على ظنِّه فيُحْكم بعدم
صِحَّة الحديث أو يتردَّد فيتوقَّف.
قال ابن مهدي: معرفة عِلَّة الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أينَ قلتَ
هذا؟ لم يكن له حُجَّة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك.
وقيل له أيضًا: إنَّك تقول للشيء: هذا صحيح، وهذا لم يثبت، فعَمَّن تقول ذلك؟ فقال:
أرأيتَ لو أتيتَ النَّاقد فأريته دراهمكَ، فقال: هذا جيد، وهذا بهرج، أكنتَ تسأل
عَمَّن ذلكَ، أو تُسلم لهُ الأمر؟ قال: بل أُسلم له الأمر. قال: فهذا كذلك بطُول
المُجَالسة والمُنَاظرة والخِبْرة.
وسُئل أبو زُرْعة: ما الحُجَّة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحُجَّة أن تسألني عن حديث
له عِلَّة، فأذكر عِلَّته، ثمَّ تقصد ابن وَارة فتسأله عنه، فيذكر عِلَّته، ثمَّ
تقصد أبا حاتم فيُعلله، ثمَّ تُميِّز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننَا
خِلافًا فاعْلم أنَّ كلا مِنَّا تكلَّم على مُراده، وإن وجدت الكلمة مُتفقة، فاعلم
حقيقة هذا العِلْم، ففعل الرَّجُل ذلكَ، فاتَّفقت كلمتهم، فقال: أشهدُ أنَّ هذا
العلم إلهامٌ.
والطَّريقُ إلى مَعْرفتهِ جَمْعُ طُرق الحديث، والنَّظر في اخْتلاف رُواته وضَبْطهم
وإتقانهم، وكَثُرَ التَّعليلُ بالإرسال، بأن يكُون راويه أقْوَى مِمَّن وصلَ، وتقع
العِلَّة في الإسْنَاد وهو الأكْثر، وقد تقع في المَتْن، وما وقعَ في الإسْنَاد قد
يَقْدح فيه، وفي المَتْن كالإرْسَال والوَقْف، وقَدْ يَقْدح في الإسْنَاد خاصَّة،
ويَكُون المَتْن معرُوفًا
صَحِيحًا، كحديث يعلى بن عُبيد، عن الثَّوري، عن عَمرو بن دينار، حَدِيث: «البَيِّعان
بالخِيَار...» غَلِطَ يعلى، إنَّما هو عبد الله بن دِينَار.
وقد تُطلق العِلَّة على غير مُقتضاها الَّذي قدَّمناه، كَكذبِ الرَّاوي، وغَفْلته،
وسُوء حِفْظه، ونَحْوها من أسْبَابِ ضعف الحديث، وسَمَّى التِّرمذيُّ النَّسخ
عِلَّة، وأطلقَ بعضهم العِلَّة على مُخَالفة لا تَقْدحُ، كإرْسَال ما وَصَله
الثِّقة الضَّابط، حتَّى قال: من الصَّحيح صحيح مُعلَّل، كما قيلَ: منهُ صحيحٌ
شَاذٌّ.