صفحة جديدة 1
أمّا أهل الأمصار المنحرفون عن عثمان فإنهم لم يرتدعوا عن غيّهم، وجاءتهم كتب من
المنحرفين بالمدينة يقولون: لهم أُقدموا علينا فإن الجهاد عندنا، فاتَّعَد جميعهم
شوال يخرجون فيه مُظهرين الحج..
فخرج المصريون في خمسمائة
عليهم الغافقي بن حرب، وخرج أهل الكوفة في عدد أهل مصر وكذلك أهل البصرة..
ولمّا كانوا على ثلاث ليال من المدينة؛ نزل أهل البصرة خُشُباً (موضع هناك)، ونزل
أهل الكوفة الأَعْوَص ومعهم جماعة من أهل مصر، ونزل جميعهم بذي المروة..
وكانت أهواؤهم مختلفة فيمَنْ يلي الخلافة بعد عثمان؛ فالكوفيون يريدون طلحة بن عبيد
الله، والبصريون الزبير بن العوام، والمصريون علياً..
فاجتمع وفد من أهل كل مصر وذهبوا إلى مَنْ هواهم فيه، فأتى أهل مصر علياً فسلموا
عليه وعرضوا عليه أمرهم فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أنكم ملعونون على
لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال طلحة والزبير لمَنْ جاءهم، فانصرف الجميع
مُظْهرين الرجوع إلى بلادهم حتى تَفَرَّق أهل المدينة، ثم لم يشعروا إلا والتكبير
في نواحيها، وأحيط بدار عثمان ونودي: «مَنْ كفّ يده فهو آمِن» فلزم الناس بيوتهم
واستغربوا رجوع الثوار بعد الإذعان بما طلبوه من إعفائهم من العُمّال الذين يطلبون
عزْلهم..
فأتى محمد بن مسلمة المصريين وقال لهم: ما الذي أرجعكم بعد ذهابكم؟
فقالوا: أخذنا كتاباً من البريد مع خادم عثمان العامل مصر يأمره فيه بقتلنا.
ثم سأل البصريين عن مجيئهم فقالوا: لنصر إخواننا، وكذلك قال الكوفيون..
فقال: كيف علمتم بما لقي أهل مصر وكلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم إلينا
جميعاً؟! هذا أمر أُبْرِم بليل..
فقالوا: اجعلوه كيف شئتم لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا..
فأخذوا منهم الكتاب وسألوا عثمان هل هو كاتبه؟
فقال عثمان: والله ما كتبت ولا أمرت ولا علمت..
فقال علي ومَنْ معه من كبار الصحابة: صدق عثمان..
فقال المصريون: إذاً مَنْ كتبه؟
فقال عثمان: لا أدري..
قالوا: فيُجْتَرَأُ عليكم، ويُبْعَث غلامك، وجمل من إبل الصدقة، ويُنْقَش على
خاتمك، ويُكْتَب إلى عامِلك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تدري؟!
قال: نعم..
قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب؛ فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخَلْع لمَا أمرت به
مِنْ قَتْلِنا، وإن كنت صادقاً فقد استحققت الخلع لضعفك عن هذا الأمر ولا ينبغي لنا
أن نترك هذا الأمر بيد مَنْ تُقْطَع الأمور دونه فاخلع نفسك..
قال: لا أخلع قميصاً ألبسنيه الله..
ولم يُلْهِم الله أحداً أن يحقق أمر هذا الكتاب؛ إذ كيف اتّحدوا على الرجوع بعد
افتراقهم في طرق مختلفة..
أمّا تهمة مروان به فلم تثبت، بل حينما سألوه حلف أنه لم يكتب..
ولم يجعل الله في دينه القويم دليلاً على تبرئة
المتهم غير يمينه إن لم تكن هناك بيّنة..
ولكن الفتنة متى كَشّرت عن نابها ضاع السداد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
حصار عثمان
ثم قام الثوار بحصر أمير المؤمنين وصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المشهود له بالجنة حصاراً شديداً حتى منعوه الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأرسل عثمان إلى علي وطلحة والزبير فحضروا فأشرف عليهم فقال: أيها الناس!
اجلسوا..
فجلس المُسَالِم منهم والمحارب..
ثم قال: يا أهل المدينة! أستودعكم الله وأساله أن يُحْسِن عليكم الخلافة من بعدي..
ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أنكم عند مصاب عمر سألتم الله أن يختار لكم ويجمعكم
على خيركم؟
أتقولون: إن الله لم يستجب لكم وهُنتم عليه وأنتم أهل حقه؟ أم تقولون: هان على
الله دينه فلم يبال مَنْ ولي والدين لم يتفرق أهله يومئذ؟ أم تقولون: لم يكن أُخِذَ
عن مشورة وإنما كان مُكَابَرة فوكل الله الأُمّة إذ عصته ولم يُشَاوَرُوا في
الإمارة؟ أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري؟
وأنشدكم الله هل تعلمون أن لي من سابقة خير وقدم خير قَدّم الله لي بحق
على كل مَنْ جاء بعدي أن يعرفوا لها فضلها، فمهلاً لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل
ثلاث؛ رجل زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفساً بغير حق، فإنكم إذا
قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبداً..
فقال الثوار: أمّا ما ذكرتَ من استخارة الناس بعد عُمَر ثم وَلّوك فإن كل ما صنع
الله خير، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده..
وأمّا ما ذكرت من قدمك وسَبْقك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كنت كذلك وكنت
أهلاً للولاية ولكن أحدثت ما علمت، ولا نترك إقامة الحق عليك خوف الفتنة عاماً
قابلاً..
وأمّا قولك: (إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة) فإنّا نجد في دين الله غير الثلاث الذي
سميت؛ قتْل مَنْ سعى في الأرض فساداً، وقتْل مَنْ بغى ثم قاتل على بغيه، وقتْل مَنْ
حال دون شيء من الحق وَمَنَعَه وقاتَل دونه، وقد بغيت ومنعت وحُلْت دونه وكَابَرْت
عليه، ولم تُقِد من نفسك مَنْ ظلمت، وقد تمسكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنك لم
تُكَابِرْنا عليها فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منّا إنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة،
فلو خلعت نفسك لانصرفوا
عن القتال معك..
فلم يُجِبهم عثمان ولَزِم داره..
وكان كثير من أهل المدينة أتوا حول داره ليذبوا عنه فأمرهم بالانصراف فانصرفوا إلا
قليلاً؛ منهم: الحسن بن علي، وابن عباس، وابن الزبير، ومحمد بن طلحة..
وكان عثمان رضي الله عنه يكره جداً أن يحدث قتال بالمدينة في زمنه، فكان يتباعد عنه
بقدر ما أمكنه حتى كان ينهى أهل بيته عن تجريد السلاح، وكان يُطاول الثوار، ويُكثر
لهم من الخطب، ويرسل إليهم علي بن أبي طالب المرة بعد المرة يعدهم بالرضوخ إلى
مطالبهم وهم لا يزدجرون، بل كلما سد عليهم باباً من أبواب الفِتَن فتحوا غيره..
فمنعوا الماء عن خليفة المسلمين، فجاءهم علي رضي الله عنه في الغَلَس فقال: يا أيها
الناس! إن الذي تفعلون لا يُشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عنه
الماء ولا المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتُطْعم وتسقي..
فقالوا: لا والله
ولا نعمة عين..
فانصرف..
وجاءت أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها..
فقالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال
الأيتام والأرامل..
فقالوا: كاذبة وقطعوا حبل بلغتها بالسيف فنفرت وكادت أم المؤمنين تسقط عنها،
فتلقاها الناس وذهبوا بها إلى بيتها..
ثم أشرف عثمان على الناس بعد منْع الماء عنه فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أني
اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين؟
قالوا: نعم..
قال: فلم تمنعوني أن أشرب حتى أفطر على ماء البحر؟!..
ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد؟
قالوا: نعم..
قال: فهل علمتم أن أحداً مُنِع فيه الصلاة من قبلي؟
ثم قال: أُنشدكم الله أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عني: (كذا وكذا)
الأشياء عَدّدها في مآثره00
فَأَثَّرت مقالته في كثير منهم حتى قالوا: مهلاً عن أمير المؤمنين..
فصرخ بهم شيطان هذه الفتنة: لعله مُكِر به وبكم.. فازدادوا عُتُوّاً..