صفحة جديدة 1
رأس الفتنة ابن سبأ
وكان رأس هذه الفتنة ذلك الرجل اليهودي الذي قدّمنا ذِكْره المُسَمّى عبد الله بن
سبأ.
قام بالدعوة لعلي بن أبي طالب زاعماً أنه وَصِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومَنْ أظلم ممَّنْ لم يجز وصيته، فتبع مذهبه كثير من أهل الأهواء الذين لهم قلوب لا
يفقهون بها، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر فإن عثمان أخذه بغير حق..
فكاتبوا أهل الأمصار فصادفوا من أهلها كثيراً يرون رأيهم حتى فشت القالة في الطعن
على عثمان وولاته، فبلغت هذه الأخبار أهل المدينة فسألوا عثمان عن ذلك فقال: ما
جاءني عن ولاتي إلا السلامة، وأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشِيروا عليّ، فأشاروا
عليه أن يبعث رجالاً إلى الأمصار للتحقق من هذه الأخبار..
فأرسل محمد بن مَسْلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى
الشام، وعَمّار بن ياسر إلى مصر..
فرجع القوم كلهم وقالوا: ما علمنا عن أمرائك إلا خيراً..
ما عدا عَمّار بن ياسر فإنه انحاز إليه جماعة من السبئية (أتباع ابن سبأ) وملئوه
كلاماً في حق أمراء عثمان ومنعوه عن الرجوع إلى المدينة..، فكتب عبد الله بن سعد
إلى عثمان يُخبره..
فأرسل عثمان إلى سائر الأمصار:
(إني آخذ عُمّالي بموافاتي كل موسم، وقد رفع إليّ أهل المدينة أن أقواماً يُشْتَمون
ويُضْرَبُون، فمَنْ ادّعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم يأخذ حقه حيث كان مني أو من
عمالي أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين)
..
وبعث إلى عُمّاله أن يوافوا الموسم، فقَدِموا عليه: عبد الله بن عامر أمير البصرة،
وعبد الله بن سعد أمير مصر، ومعاوية بن أبي سفيان أمير الشام..
فَجَمَعَهم، وأدخل عمرو بن العاص السهمي، وسعيد بن العاص الأموي، وقال لهم: ويحكم!
ما هذه الشكاية والإذاعة؟!.. إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم وما يُعْصَب
هذا إلا بي..
فقالوا له: ألم تبعث؟.. ألم يرجع إليك الخبر عن العوام؟.. ألم يرجع رُسُلك؟.. ألم
يشافههم أحد بشيء؟.. والله ما صدقوا ولا بَرّوا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً، ولا
يَحِلّ الأخذ بهذه الإشاعة..
فاستشارهم في تسكين هذه الفتنة..
فقال ابن عامر: أرى أن تشغلهم بالجهاد..
وقال ابن سعد: استصحلهم بالمال..
وقال معاوية: اجعل كفايتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام..
وقال ابن العاص: أرى أنك قد لِنْت لهم، ورضيت عليهم، وزِدْتهم على ما كان يصنع عمر،
فأرى أن تلزم طريق صاحبك فتشد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين..
وقال سعيد: متى تهلك قادتهم يتفرقوا..
فقال عثمان: قد سمعت كل ما أشرتم به، ولكل أمر باب يُؤْتَى منه، إن هذا الأمر الذي
يُخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يُغْلَق عليه ليُفْتَحَنّ، فنكفكفه باللين
والمواتاة إلا في حدود الله، فإن فُتِح فلا يكونن لأحد عليّ حُجة..
وقد علم الله أني لم آلُ الناس خيراً، وإن رَحَى الفتنة دائرة، فَطُوبى لعثمان إن
مات ولم يُحَرِّكها، سَكِّنوا الناس، وَهَبُوا لهم حقوقهم فإذا تُعُوطِيَت حقوق
الله فلا تُدْهِنوا..
ثم نَفَر ونفر الأمراء إلى بلادهم، وَصَحِبَه معاوية لأن طريقه على المدينة، فلمّا
قَدِمَاها جمع عثمان كبار الصحابة، فقام معاوية فحمد الله ثم قال: أنتم أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وخيرته من خُلْقه، ووُلاة أمر هذه الأمة، لا يطمع فيه أحد
غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر وولّى عُمُره، ولو انتظرتم به
الهرم لكان قريباً، مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله من أن يُبَلِّغه ذلك، وقد
فشت مقالة خفتها عليكم فما عتبتم فيها من شيء، فهذه يدي ولا تُطْمِعوا الناس في
أمركم، فوالله إن طمعوا فيها لا رأيتم منها أبداً إلا إدباراً..
فنَهَره علي بن أبي طالب، فقال عثمان: صدق ابن أخي وأنا أُخْبركم عني وعمّا
وُلِّيت؛ إن صاحبيّ اللذيْن كانا قبلي ظَلَمَا أنفسهما ومَنْ كان منهما بسبيل
احتساباً، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعطي قرابته، وأنا في رهط أهل
عيلة وقِلّة معاش فبَسَطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه فإن رأيتم ذلك خطأ
فردوه فأمري لأمركم تبع..
فقالوا قد أصبت وأحسنت،
أعطيت خالد بن أَسِيْد خمسين ألفاً، ومروان بن الحكم خمسة عشر ألفاً (ثمانين
ألفاً)، فأخذ منهما ذلك، فرضوا وخرجوا راضين..
ثم خرج معاوية إلى الشام بعد أن عَرض على عثمان الخروج معه فلم يقبل ضَنّاً بجوار
رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فسار معاوية، ومرّ في سيْره على نفر من المهاجرين فيهم علي وطلحة والزبير، فقال: قد
علمتم أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى أرسل الله نبيّه وكانوا يتفاضلون
بالسابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرْهم والناس لهم تَبع، وإن
طلبوا الدنيا بالتغالب سُلِبوا ذلك ورَدّه الله إلى غيرهم وإن الله على
البدل لقادر، وإني قد خَلَّفْت فيكم شيخاً فاستوصوا به خيراً، وكاتفوه تكونوا أسعد
منه بذلك، ثم مضى..