صفحة جديدة 1
فتح بلاد الشام
تركنا المسلمين فائزين منصورين باليرموك بعد موقعتها الهائلة وأمير الجند- أمين هذه
الأمة- أبو عبيدة عامر بن الجراح العامري القرشي بعد سيف الله خالد بن الوليد
المخزومي القرشي..
وحينئذ بلغ الأمير أن فَلّ الروم لحقوا بفِحْل، وأن مَدَداً عظيماً من قِبَل ملك
الروم أتى دمشق، فكتب إلى أمير المؤمنين يستشيره بأي البلدين يبدأ؟.. فكتب إليه أن
سَيِّر إلى فِحْل فِرْقة تشغل مَنْ بها وسِرْ أنت إلى دمشق فإنها حصن الشام وبيت
مُلْكه، فَسَيَّرَ أبو عبيدة فِرقة من جيشه إلى فِحْل فحاصرتها، وسَيَّر أخرى لتكون
بين حمص ودمشق لتمنع الأمداد عنها، وأخرى لتكون بين دمشق وفلسطين وتوجه هو وعلى
مقدمته خالد بن الوليد إلى دمشق واستخلف على فلسطين والأردن عمرو بن العاص.
فتح دمشق
فلمّا وصل إلى دمشق تحصن أهلها فحصرهم المسلمون؛ أبو عبيدة من جهة وخالد بن الوليد
من أخرى، ودام الحصار سبعين ليلة..
وبينما خالد على حصاره ليلة سمع جَلَبة فأرسل مَنْ يستعلم الخبر لأنه كان يتجسس
أحوال عدوه- فلا يخفى عليه منها شيء- لينتهز الفرصة، فعلم أنه وُلِدَ لبطريق
المدينة وَلَد فصنع وليمة سَكَرَ فيها الجند سُكْراً شديداً..
فاتخذ خالد حبالاً على هيئة السلالم وأوقاها، ثم نهض هو ومَنْ معه من أرباب النجدة
وهو أمامهم ومعه القعقاع (قبل أن يتوجه للعراق) وأمثاله، وقال خالد لمَنْ معه: (إذا
سمعتم تكبيرنا على السور فاقصِدوا الأبواب)..
ولمّا وصل خالد ومَنْ معه إلى السور رموا الحبال فعلق منها حبلان فصعدوا عليهما،
وتَبِعهم كثير، ولمّا صاروا فوق السور قصدوا الباب ففتحوه وكبّروا فدخل الجيش
مُكَبّراً حتى أزعج تكبيره أهل المدينة فصحوا من سَكْرَتهم مذعورين لا يقدرون على
شيء..
فذهب وفد منهم إلى أبي عبيدة يطلبون الأمان فأمّنهم ودخل معهم المدينة ليُؤمِّن
الناس، فالتقى بخالد وسط البلد، هذا سِلماً وذاك حرباً، فأخبره أبو عبيدة بالصلح
فكفَّ..
وأجروا ما فُتِح عنوة مجرى الصلح فصارت كلها صلحاً..
وبعث أبو عبيدة إلى عمر بالفتح..
ثم استخلف على المدينة يزيد بن أبي سفيان ففتح سواحلها: (صيدا وعِرقة وجُبيل
وبيروت)، وسَيَّر أخاه معاوية لفتح قيسارية ففتحها..
غزوة فِحْل
أما أبو عبيدة فسار إلى فحل، وعلى مُقَدّمته خالد، وعلى المُجَنِّبَتَيْن عمرو بن
العاص وأبو عبيدة، وعلى الخيل ضرار بن الأزور الأسدي، وعلى الرجال عياض بن غَنْمٍ،
وعلى الناس شُرحبيل بن حسنة..
فنزل شرحبيل بالناس فِحْلاً وحاصرها..
في ليلة خرج الروم يريدون بيات المسلمين، وكان شُرحبيل حَذِراً لا يبيت ولا يصبح
إلا على تعبية لكثرة ما كان عمر بن الخطاب يُحذرهم البيات، فقاتلهم قتالاً شديداً
تلك الليلة كلها ويومها كله فلما أمسى المساء خمدت هِمّة الروم فانهزموا وحِيل
بينهم وبين المدينة بمياه كانوا فجّروها ووحّلوا بها الأرض لتكون خندقاً حول
المدينة، فأخذهم المسلمون من كل جهة، واستولوا على المدينة، فأرسل الأمير إلى عمر
بالفتح والخُمس..
ثم فصل من جيشه فرقتين؛ أَمّر على إحداهما شُرحبيل بن حسنة ووجّهه إلى بيسان، ووجّه
الأخرى إلى طبرية (قصبة الأردن)؛ ففتح كل منهما مدينته على مثل صلح دمشق..
وقعة مَرْج الروم
أما أبو عبيدة فسار ومعه خالد إلى حمص، فلمّا وصل مَرْج الروم التقى بجيشين بعثهما
هرقل لقتال المسلمين؛ أحدهما برياسة بطريق اسمه توذر، والثاني برئاسة شنش الرومي،
فوقف خالد أمام الأول وأبو عبيدة أمام الثاني..
فلمّا أصبح خالد لم يجد لتوذر ولا لجيشه أثراً لأنه ترك خالداً وتوجّه إلى دمشق
ليفتحها ظانّاً أن ليس بها حامية، فعَلِم خالد قصْده فتَبِعه، وعَلِم به يزيد بن
أبي سفيان أمير دمشق فاستعد للقائه، فانحصر توذر بين الجيشين فأُخِذ هو وجُنده ولم
يفلت منهم إلا القليل..
أما أبو عبيدة فإنه لاقى شنش وهزمه فرجع خالد وقد قُضِي الأمر.
فتح حمص
فسار مع أبي عبيدة إلى حمص، ولمّا بلغ ذلك ملك الروم وأرسل إلى بطريق حمص يأمره
بالمسير إليها، وسار وهو إلى الرُّها..
أما المسلمون فمروا ببعلبك ففتحوها، ولمّا وصلوا حمص حاصروها فتحصن أهلها منتظرين
مَدَد هرقل، ولكن لما طال عليهم الأمر راسلوا أبا عبيدة في صُلحٍ مثل صُلح دمشق
فأُجِيبوا..
واستخلف عليها عبادة بن الصامت..
وسار هو قاصداً حماة فتلقاه أهلها مُذعنين فصالحهم على الجزية والخَراج..
ثم سار نحو شيزر (بلد قريب من حماة) ففتحها صُلحاً، وقصد بعدها المَعَرّة (بين حماة
وحلب) ففتحها كذلك..
ثم اللاذقية (من أعمال حلب) فملكها عنوة وهرب سكانها، ثم طلبوا الأمان على أن
يرجعوا إلى بلادهم ويقيموا فيها، فقوطعوا على خراج يؤدونه، وبنى فيها المسلمون
مسجداً جامعاً..
فتْح قِنَّسْرين
ثم أرسل أبو عبيدة خالداً لفتح قنسرين (كورة بالشام)، فلمّا بلغ الحاضر قابله جمْع
عظيم من الروم عليهم قائد اسمه ميناس فقاتلهم خالد حتى هزمهم، وقَصَد قنسرين فتحصّن
أهلها منه..
فقال لهم: لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا..
نظروا في أمرهم وما لقيه أهل البلدان الأخرى من المسلمين فرأوا أن لا قِبَل لهم
بالحرب ولا الحصار، فطلبوا الصلح على مثل صلح دمشق، فلم يرضَ إلا على تخريب
المدينة، فخُرّبَت حصونها..
ثم أدرب خالد وراء هرقل من الشام، وأدرب وراءه عياض بن غَنْم من الروم..
فترك ملك الروم الشام وودّعها الوداع الأخير وسار إلى القسطنطينية..
ولمّا بلغ عمر فِعْل خالد قال أَمّر خالد نفسه يرحم الله أبا بكر كان أعلم بالرجال
منّى..
فتْح حلب وأنطاكية وغيرهم
(ثم) سار أبو عبيدة إلى حلب فتحصن أهلها، ثم طلبوا صُلحاً بأمان على أنفسهم
وأولادهم وأموالهم وكنائسهم وحِصْنهم فأُجِيبوا، واستثنى عليهم موضع المسجد..
ثم سار إلى أنطاكية فصالحه أهلها على الجلاء لمَنْ أراد، وعلى الجزية على مَنْ
أقام..
وكانت أنطاكية أعظم ثغور الروم؛ فأرسل عمر إلى أبي عبيدة أن يُرَتّب لها جماعة من
المسلمين يرابطون (فيها) بها..
ثم سار إلى مَعَرّة مصرين ففتحها صُلحاً وبث السرايا لِما جاورها من القرى والبلدان
ففُتِحت لهم..
ثم سار أبو عبيدة إلى قورس (كورة بنواحي حلب وهي الآن خراب) ففتحها..
وفتح تل عزَاز..
ثم سار إلى مَنْبَج من بلاد الروم على الفرات، فصالح أهلها على مثل صُلح حمص واشترط
عليهم أن يُخبِروا المسلمين بأخبار الروم..
وولّى أبو عبيدة على كل كورة فتحها عاملاً، وشحن الثغور الَمخُوفَة بالمُرابطين..
وسار إلى بالس (بلد بشط الفرات) وبعث سرية مع حبيب بن مسلمة إلى قاصِرين، فصالح
أهلها..
وتم للمسلمين فتح الشام من هذه الناحية إلى الفرات..
ثم عاد أبو عبيدة إلى فلسطين، وسَيّر جيشاً مع ميسرة بن مسروق العبسى وأمَدّه بمالك
بن الحارث الملَقَّب بالأشْتَر فسلكوا درب بغراس (بلد بِلِحْف جبل اللُّكام وهو جبل
يُسامِت حماة وشَيْزر وأفامية، ويمتد شمالاً إلى صَهيون والشُّغر وبَكَاس، وينتهي
عند أنطاكية إلى بلاد الروم).. فلقوا هناك جمْعاً للروم معهم عرب من (غسان، وتنوخ،
وإياد) يريدون اللحاق بهرقل فأوقعوا بهم..
وسَيّر أبو بعيدة جيشاً آخر إلى مرعش (قُرب أنطاكية) ورئيسه خالد بن الوليد ففتحها
على إجلاء أهلها بالأمان وأخربها.
أما عمرو بن العاص الذي كان على الأردن فإنه سار إلى أجنادين، وقد تجمّع بها جيش
عظيم من الروم عليهم داهية منهم اسمه أرطبون، فحاصره عمرو حصاراً شديداً، ثم لم يزل
يتجسس حتى عرف مأخذه فحاربه وهزمه فانتهى في هزيمته إلى إيلياء (بيت المقدس)..