صفحة جديدة 1
فتْح بيت المقدس
فسار وراءه عمرو وحصره، ثم طلب أهله الصلح على أن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، فكتب عمرو إليه بذلك فعزم عمر على السفر إلى الشام ليتسلم بيده
مفاتيح المسجد الأقصى، فسار من المدينة بعد أن ولّى عليها علي بن أبي طالب وكتب إلى
عُمّاله أن يوافوه بالجابية- وهي بلد بدمشق- فوافوه بها..
وكان أول مَنْ لقيه يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد على الخيول
عليهم الديباج (والحرير)، فنزل وأخذ الحجارة ورماهم بها، وقال: ما أسرع ما
رجعتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي؟! وإنما شبعتم منذ سنتين، والله لو
فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم..
فقالوا: يا أمير المؤمنين! أنها يلامعة (هي ما برق من السلاح) وإن علينا السلاح..
قال: فنِعْم إذاً..
وجاءه وهو بالجابية أهل إيلياء مستأمنين فصالحهم على الجزية وكتب لهم أماناً هذه
صورته:
(بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من
الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصُلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر
مِلّتها أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تُهدَم، ولا يُنتقَص منها ولا حيّزها، ولا من
صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَرُّ أحد منهم، ولا
يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود..
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخْرِجوا منها
الروم واللصوت (اللصوص)..
فمَنْ خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ومَنْ أقام منهم فهو آمن
وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومَنْ أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه
وماله مع الروم ويُخلّي بِيَعهم وصُلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم
وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومَنْ كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمَنْ شاء
منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومَنْ شاء سار مع الروم، ومَنْ
شاء رجع إلى أهله فإنه لا يُؤخَذ منهم شيء حتى يُحصَد حصادهم، وعلى ما في هذا
الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أَعْطوا الذي عليهم من
الجزية (أهـ من تاريخ الطبري)..
ولمّا دخل عمر المدينة دخل كنيسة القيامة، وجلس في صحنها وحان وقت الصلاة فقال
للبطريرك (للبطريق): أريد الصلاة..
فقال له: صلِّ موضعك..
فامتنع وصلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفرداً، فلمّا قضى صلاته قال
للبطريرك (للبطريق): لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي وقالوا: هنا صلى
عمر..
وكتب لهم ألا يُجَمّع على الدرجة للصلاة، وألا يُؤَذَّن عليها..
ثم قال: أرني موضعاً أبني فيه مسجداً..
فقال: على الصخرة التي كلّم الله عليها يعقوب..
ووجد عليها ردْماً كثيراً فشرع في إزالته وتناوله بيده يرفعه في ثوبه، واقتدى به
المسمون كافة فزال لحينه..
وأمر ببناء المسجد..
(ذكر ذلك ابن خلدون في الجزء الثاني من تاريخه)
ثم ولّى رضي الله عنه الولاة على الشام بعد أن قَسَمها أقساماً، وجعل فلسطين
ولايتين:
إحداهما قصبتها الرملة.
والأخرى قصبتها إيلياء..
ثم رجع رضي الله عنه إلى المدينة فائزاً منصوراً وهذه أول مرة سافر فيها إلى الشام.
طاعون عمواس
وفي السنة الثامنة عشر حصل في الشام طاعون أتى كل على كثير من جند المسلمين وهو
طاعون عمواس، وبلغ عمر خبره وهو مُتوجّه إلى الشام للمرة الثانية، فوافاه الأمراء
بسَرْغ (موضع قُرب الشام بين المغيثة وتبوك) وفيهم أبو عبيدة فأخبروه بالوباء
وشِدته، وكان مع عمر المهاجرون والأنصار فجمعهم مستشيراً: أيمضي لوجهه أم يرجع؟
فاختلفوا عليه:
فمِنْ قائل: خرجت لوجه الله فلا يصدنّك عنه هذا.
ومِنْ قائل: إنه بلاء وفناء فلا نرى أن تُقدِم عليه..
ثم أحضر مُهاجرة الفتح من قريش فلم يختلفوا عليه، بل أشاروا بالعودة..
فنادى عمر في الناس: إني مُصبِح على ظهر..
فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟!
فقال: نعم.. نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً
له عدوتان؛ إحداهما: مخصبة، والأخرى: جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله
وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف فجاءهم وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا
سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه وإن وقع ببلد وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً
منه»..
فانصرف عمر بالناس إلى المدينة..
ومات بهذا الوباء أبو عبيدة فخَلَفَه معاذ بن جبل فمات فخلفه عمرو بن العاص..
فخرج بالجيش إلى موضع مرتفع من الجبال، فخَفّ عنهم الوباء، فاستحسن عمر فِعْله..
ومات يزيد بن أبي سفيان أمير دمشق فاستخلف عليها أخاه معاوية واستعمل شرحبيل بن
حسنة على جند الأردن وخَرْجها..
وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله، ثم رفعه الله عنهم بعد إقامته شهوراً..
فكتب الأمراء إلى عمر بما في أيديهم من المواريث فجمع الناس واستشارهم وقال: قد بدا
لي أن أطوف على المسلمين في بلادهم لأنظر في آثارهم فأشيروا علي، وإن مواريث أهل
الشام قد ضاعت فأبدأ بالشام فأُقسم المواريث وأُقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع فأنقلب
في البلاد وأُبدي إليهم..
فسار عن المدينة واستخلف عليها علي بن أبي طالب وجعل طريقه على أيلة، فلمّا دنا
منها ركب بعيره وعلى رحْله فَرْو مقلوب، وأعطى غلامه مَرْكَبَه، فلمّا تلقاه الناس
قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم... يعني نفسه..
فسار وانتهى هو إلى أيلة فقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها..
فرجعوا.
ولمّا قدِم رضي الله عنه إلى الشام قَسّم المواريث، فوَرّث بعض الورثة من بعض،
وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم، ورتّب الشواتي والصوائف (الشواتي جمع الشاتية
وهي السرية التي تغزو في الشتاء والصوائف جمع صائفة وهي التي تغزو في الصيف)، وسدَّ
فروج الشام ومسالحها..
واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة، واستعمل معاوية على دمشق، وعزل
شرحبيل عن الأردن وقال للناس: (إني لم أعزله عن رِيبة ولكن أريد رجلاً أقوى من
رجل)..
واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء (جمع هُرّ؛ وهو بيت كبير يُجمع فيه طعام
السلطان)..
ثم قيل لعمر: (لو أمرت بلالاً فأَذَّن) فَأَمَرَه بذلك فما بقي أحد أدرك النبي صلى
الله عليه وسلم إلا بكى حتى بَلَّ لحيته وعمر أشد الناس بكاءً، وبكى مَنْ لم يدركه
لبكائهم.. كل ذلك لذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ثم رجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة.