صفحة جديدة 2
وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند كثيف يحوطهم وعهد إليه أن يَشْركهم في كل
مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم.. ففعل.. وسار بالجيش لأيام بقين من
شوال، وكان فَلُّ المنهزمين لحِق ببابل، وفيهم بقايا الرؤساء مصممين على المدافعة.
فتح البُرْس
فلما وصلت مقدمة المسلمين برس قابلهم فيها بعض عساكر الفرس فقاتلوا ثم انهزموا،
ولما أدركهم سعد أخبروه الخبر فسُرَّ واستمر سائراً حتى وصل بابل.
فتح بابل
وهناك عبر الفرات وقاتل مَنْ تجمّع ببابل، فلم يلبث الفرس إلا ساعة من نهار
وانهزموا مدحورين في أسرع من لفْت الرداء، وناهيك بقتال مَنْ مُلِأَ قلبه رعباً
وهذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب»..
وهرب الفيرزان إلى نهاوند، وهرب الهرمزان إلى الأهواز (إقليم بالجنوب الغربي من
بلاد فارس بين البصرة وإقليم فارس وهى تسع كور وقاعدتها السوس ومن مدنها تستر)..
وقصد بقية المنهزمين المدائن (مدينة كسرى جنوبي بغداد على الدجلة، وسُميت المدائن
لكِبَرها وهى غربية وشرقية، وفي هذه إيوان كسرى وهى قاعدة الملك)..
وتَبِع زُهرة المنهزمين فلَحِقَهم بين الدير وكوثى فطردهم وقَتَل منهم جمْعاً
عظِيماً.
فتح كوثى
ثم سار حتى وصل كُوثى، فخرج إليه أميرها مُقاتِلاً فقُتِل وانهزم جيشه، وانتظر
زُهرة هناك سعداً.
فتح ساباط
وبعد أن وصل سعد سار زُهرة حتى ورد ساباط فصالحه أهلها على الجزية وانتظر سعداً..
فتْح المدائن
فلما سار الجيش كله قاصداً بَهُرَسِير وهى المدينة الغربية، فرأى المسلمون إيوان
كسرى أمامهم وتذكروا وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
روى مسلم عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عصيبة المسلمين
يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى أو آل كسرى»..
فقويت قلوبهم وعَظُمت همّتهم، وهؤلاء جديرون بنصْر الله لهم لأنهم على يقين من
دينهم، فكلما سنحت لهم فرصة تُقَرّبهم إلى الله بادروا إليها
﴿إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾..
ونادي ضرار بن الخطاب: الله أكبر هذا أبيض كسرى هذا وما وعد الله وصدق رسوله وكبّر
وكبر معه المسلمون، وحاصر سعد المدينة في ذي الحجة من السنة الرابعة عشرة، وأرسل
الخيل لفتْح القرى المجاورة..
واستشار سعدٌ عمرَ في أسرى الفلاحين، فجمع عمر أصحاب شُوراه وخطبهم.. فقال: (إنه
مَنْ يعمل بالهوى والمعصية يسقط حَظه ولا يضر إلا نفسه، ومَنْ يتّبع السُّنة وينتهِ
إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل الطاعة أصاب أمره وظَفِر
بحظه، وذلك بأن الله عز وجل يقول:
﴿وَوَجَدُوا
مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[الكهف:49]
وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم وجلا أهله، وأتاهم مَنْ أقام على عهدهم، فما
رأيكم فيمَن زعم أنه استُكرِه وحُشر، وفيمَنْ لم يَدَّعِ ذلك ولم يُقِم وَجَلَا،
وفيمَنْ أقام ولم يدع شيئاً ولم يَجْلُ، وفيمَنْ استسلم)..
فأجمعوا على الوفاء لمَنْ أقام وكفَّ لم يَزِدًه غَلَبه إلا خيراً، وأن مَنْ ادّعى
فصدق أو وفى فبمنزلتهم، وإن كذب نُبِذَ إليهم أو أعادوا صُلحهم، وأن يجعل أمْر مَنْ
جَلَا إليهم: فإذا شاءوا دعوهم وكانوا لهم ذمةً، وإن شاءوا تَمُّوا على منْعهم من
أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يُخيِّروا مَنْ أقام واستسلم بين الجزاء
والجلاء..
فكتب عمر إلى سعد بما أقرّ عليه علماء المسلمين ورجال شوراهم..
فخلّى سعد عن الفلاحين وأرسل إلى الدهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم
الذمة، فتراجعوا ولم يبقَ غربي دجلة سوادي إلا دخل في ذمة المسلمين واغتبط بملكهم؛
كيف لا وقد رأوا قوما أساس دينهم المساواة فأميرهم كأصغر الرعية أمام الحق، لا كبر،
لا ظلم، لا فساد في الأرض، خفت عنهم وطأة الكبرياء والعبودية التي كانوا يسامونها
فصاروا عباد الله وحده..
ذِكْر فتْح المدائن التي فيها إيوان كِسْرى
(ولما) اشتد الحصار على المدائن الغربية ترك يزدجر المدينة وعبر إلى المدينة
الشرقية، فعزم سعد على العبور، ولكن الفرس كانوا جمعوا المعابر فدَلَّه فارسي على
مخاضة تصلح للعبور، فقال سعد لرؤساء الجيش: إني قد عزمت على قطع هذا البحر، فقالوا
جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل..
فانتدب منهم مَنْ يُعدي أولاً ويحمي الفراض حتى يعبر المسلمون..
فأجابه لذلك ذو البأس عاصم بن عمرو سيد بني تميم، فعَبَر في ستين فارساً من قومه،
فلما رآهم الأعاجم قصدوهم فشرعوا نحوهم الرماح فلم يصبر الفرس..
ولما رأى سعد أن الفراض محمية أمر المسلمين بالعبور فعبروا وهم يقولون: نستعين
بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم..
وكان يُساير سعداً سلمان الفارسي فعامت بهم خيولهم وسعد يقول: حسبنا الله ونِعْم
الوكيل، والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه، وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش بغي
أو ذنوب تغلب الحسنات، فقال له سلمان: الإسلام جديد ذُلِّلَت لهم البحور كما ذُلِّل
لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا.. فأبَرَّ الله
قَسَمَه وخرجوا ولم يفقد أحد منهم شيئاً، ولم يغرق منهم أحد... غير أن رجلاً زال عن
ظهر فرسه فثنى القعقاع عنان فرسه إليه فأخذه بيده وأخرجه سالماً، فانظر رعاك الله
كيف لم تَشْغل القعقاع نفسُه وهو أحرج المواقف بل آثَرَ رفيقه على نفسه وبذلك تتجلى
لك مظاهر الإسلام والأخوة الإسلامية في أعلى درجاتها..
وكان هذا اليوم يُسمى يوم الجراثيم لا يعيي أحد إلا تبيّنت له جرثومة يريح عليها..
(ولما) رأى الفرس عبور المسلمين سُقِط في أيديهم، ورأوا أنهم لا قِبَل لهم
بالمدافعة فترك يزدجر المدينة وهرب قاصداً حُلوان (بلدة بينها وبين بغداد أربعة
مراحل وهي منتهى العراق من جهة الشرق وتُعَدُّ من كُور الجبل وهي مبنية على شاطئ
نهر متفرع من دجلة، وتُقابل طبرستان) وكان قد قدّم إليها أهله وولده..
فدخل المسلمون المدينة من غير معارض ونزل سعد القصر الأبيض واتخذه مصلى وقرأ قوله
تعالى:
﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾[الدخان:25]
﴿وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾[الدخان:26]
﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾[الدخان:27]
﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾[الدخان:28]
وابتدأ يجمع الغنائم والأسلاب وكانت شيئاً عظيماً، وأرسل وراء الهاربين بالأموال
والذخائر فأتى-فأُتِي- بهم ولم يُفلِت منهم أحد..
وكان أوَّل مَنْ دخل المدائن من جيوش المسلمين كتيبة القعقاع بن عمرو وتُسمى
الخرساء، وبعدها كتيبة عاصم بن عمرو وتُسمى كتيبة الأهوال..
ثم قسم سعد الغنيمة فأصاب الفارس اثنا عشر ألفاً، وقسَّم المنازل بين الناس، وأحضر
العيالات من العتيق فأنزلهم الدور..
وصارت المدائن قاعدة لأعمال العراق يقيم بها أميرهم، وكانت أول جمعة جُمِّعت
بالمدائن في صفر من السنة السادسة عشرة..
وأرسل سعد الأخماس إلى عمر ومعها كل شيء أراد أن يعجب منه العرب..
وكان فتْح المدائن في أواخر السنة الخامسة عشر..
ولما قدِم البشير على عمر بذخائر كسرى قال: إن قوماً أدُّوا هذا لذووا أمانة، فقال
له علي: (إنك عففت فعفَّت الرعية)..
ومما بُعِث إليه بساط كان لِكسرى يُسمى القِطْف وكان ستين ذراعاً في ستين، فاستشار
عمر أصحابه فيما يفعل به، فكُلهم أشار عليه بأَخْذِه لنفسه إلا علياً فإنه قال له:
يا أمير المؤمنين! الأمر كما قالوا ولم يبقَ إلا التروية، إنك إن تقبله على هذا
اليوم لم تعدم في غد مَنْ يستحق به ما ليس له، قال: صدقتني ونصحتني؛ فقسّمه بينهم..
وولّى عمر سعد بن أبي وقاص صلاة ما غلب عليه وحربه، وولّى الخَرَاج النعمان بن
مُقرِّن على ما سقت دجلة، وسويداً أخاه على ما سقى الفرات ثم استعفيا، فوَلّى
عملهما حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزني ثم ولى عملهما بعد حذيفة بن اليمان
وعثمان بن حنيف.