صفحة جديدة 1
فتح جلولاء
ولما انهزم الفرس ورحلوا عن المدائن اتجهوا شمالاً حتى وصلوا جلولاء شرقي دجلة
(بلدة على شاطئ دجلة شمال المدائن وهي من أعمال بغداد)..
فافترقت بهم الطرق؛ أهل أذربيجان يريدون الشمال، وأهل إقليم فارس يريدون الجنوب،
فقالوا: إن افترقنا لم نجتمع فهلمّ فلنحتشد لحرب العرب هنا، فإن كانت لنا كان ما
أردنا وإن كانت علينا كنا شفينا أنفسنا..
وولّوا أمرهم مِهران الرازي، وحفروا حولهم خندقاً أحاطوه بحَسَك الحديد إلا
طُرقهم..
فبلغ ذلك سعداً فسرّح إليهم ابن أخيه هاشم بن عتبة في اثني عشر ألفاً، وجعل على
مقدمته القعقاع حسبما أمر عمر، فساروا في صفر من السنة السادسة عشرة حتى أتوا
جلولاء فانحصر الفرس في خنادقهم ثمانين يوماً ولا يقدر عليهم المسلمون، وبعد هذه
المدة انكشف لهم طريق من الخندق كان المشركون أعدوه لسيْر خيلهم فهجموا منه
وقاتلوهم قِتالا شديداً شبيهاً بقتال ليلة الهرير إلا أنه كان أسرع فقُتِل من
المشركين مَقتلة عظيمة، وانتهى القتال بهزيمتهم إلى خانقين فتَبِعهم إليها القعقاع
وهزمهم منها...
أما يزدجرد فإنه لما بلغه امتلاك المسلمين لجلولاء ترك حلوان وتوجه إلى الري فسار
القعقاع إلى حلوان وامتلكها..
ثم أرسل سعد إلى عمر يُخبره بهزيمة الفرس، ويستأذنه في اتّباعهم إلى داخل بلادهم
فلم يرضَ عمر، وقال: وددت أن بين السواد والجبل سداً حصيناً من ريف السواد، فقد
آثرتُ سلامة المسلمين على الفيء والأخماس، ولما قدِمت عليه الأخماس قال: والله لا
يُجِنّها سقف حتى أَقسمها، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانها في
المسجد، فلما أصبح الصبح جاء عمر فنظر إلى ما في الأخماس من جوهر ودُرِّ فبكى..
فقال عبد الرحمن: ما يُبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله هذا لموطن شكر..
فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، وبالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا
وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا أُلقِي بأسُهم بينهم..
ومنع عمر من قسمة السواد وهو ما بين حلوان شرقاً إلى القادسية غرباً..
وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من السنة السادسة عشرة..
ذِكْر فتْح تكريت
في جمادى الأولى من السنة السادسة عشرة..
بلغ سعداً أن الأنطاق ملك الموصل سار منها إلى تكريت (بلد على شاطئ دجلة الشرقي في شمال بغداد) ومعه جمْع كثير من الروم والعرب، فسَيَّر
إليه عبد الله بن المُعْتَمّ حسبما أمر عمر، فسار عبد الله إلى تكريت وحصرها أربعين
يوماً..
وفي نهايتها أرسل إلى العرب الذين
مع الأنطاق يستميلهم إليه ويدعوهم لنُصرته وخِذلان الفرس والأروام الذين ليسوا من
جنسهم، فأجابوه لذلك وأنهم معه، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فأَسْلِموا فهداهم
الله للدين القويم وأَسْلَمُوا..
فأرسل إليهم: أن إذا سمعتم تكبيرنا
فاعلموا أنّا قد أخذنا أبواب الخندق فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبّروا واقتلوا
مَنْ قدرتم عليه..
ثم حمل عبد الله وكبّر فكبّر
العرب فظن المشركون أن المسلمين جاءوهم من خلفهم مما يلي دجلة فقصدوا أبواب الخندق
فأخذتهم سيوف المسلمين فلم يستطيعوا مُدافعةً وهرب منهم مَنْ أطاق الهرب ودخل
المسلمون المدينة.
فتح نينوى والموصل
ثم أرسل عبد الله سرية لفتح نينوى
والموصل (بلدان على دجلة بعد الدرجة السادسة والثلاثين من خط العرض الشمالي الأولى
على الشاطئ الشرقي والأخرى على الغربي)..
وأرسل في هذه السرية جمْعاً من
العرب الذين كانوا مع الفرس، فسبقوا إلى البلدين وأخبروا بفتْح وظفر الفرس ففتحوا
لهم الأبواب، ولم يلبث المسلمون أن جاءوا فدخلوا من غير مُعارِض فطلب أهلها الأمان
على الجزية فأُمِّنوا وصاروا ذمةً..
ثم قسّم عبد الله الغنائم وأرسل
الخُمس إلى عمر.
فتح ماسبذان
ثم بلغ سعداً أن جمْعاً عظيماً من
الفرس تجمّعوا بسهل ماسبذان، فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب الفهري فشتت شمْلهم، وأقام
بماسبذان مُرابطاً لأنها كانت ثغراً تُؤتَى المدائن من قِبَلها.
فتح هيت
ثم أرسل سعد عمر بن مالك بجيش إلى
هيت (ناحية من نواحي بغداد) لفتْحِها، فجاء وقد خندق حولها المشركون فحاصرها..
ذِكْر فتْح قرقيسياء
وفي أثناء الحصار فتح قرقيسياء
(بلدة على شاطئ الفرات شمالي الأنبار بينها وبين الرَّقة وهذه واسطة ديار ربيعة
التي مركزها نصيبين) ولما رأى أهل هيت أن لا قِبَل لهم بالحرب أجابوا إلى دفْع
الجزية وصاروا ذمةً.
تخطيط الكوفة
مكثت المدائن قاعدة أعمال العراق
منذ فُتِحت إلى السنة السابعة عشرة، فرأى عمر بن الخطاب في وجوه العرب الذين نزلوا
بها تَغَيُّراً في ألوانهم وضعْفاً في أبدانهم..
فكتب إلى سعد: أن ابعث سلمان
الفارسي وحذيفة بن اليمان رائديْن فليرتادا منزلاً برياً بحرياً، ليس بيني وبينكم
فيه بحر ولا جسر..
فأرسلهما سعد كل واحد من جهة
فاجتمعا بالكوفة- ومعناها الرملة الحمراء المستديرة أو كل رملة تخالطها حصباء-
فاستحسناها، وصلياً بها ودعوا الله أن يجعلها منزل الثبات، ثم رجعا إلى سعد
وأخبراه..
فأرسل إلى القعقاع وعبد الله بن
المعتم أن يستخلفا على جيوشها ويحضرا..
ثم سار من المدائن حتى وصل أرض
الكوفة فعسكر بها في المحرم من السنة السابعة عشرة..
ثم استشاروا عمر في البناء بالقصب
فأذِنَ لهم، ولما حصل فيها الحريق عقب تخطيطها استأذنوه في البناء باللَّبِن فقال:
افعلوا، ولا يزيدن أحدكم عن ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السُّنة
تلزمكم الدولة.
وكان مُخَطِّط الكوفة أبو هياج ابن
مالك فجعل النهج (الشارع الأعظم) أربعين ذراعاً، وما يليه ثلاثين، وما بين ذلك
عشرين، والأزقة سبعة أذرع، ليس دون ذلك شيء..
وجعل القطائع ستين ذراعاً.
وأول شيء أُسِّسَ فيها المسجد،
وبني بحياله داراً لسعد وهي قصر الكوفة..
والمدينة مبنية على الشاطئ الغربي
لنهر الفرات، بينها وبينه نحو نصف فرسخ، كله حدائق نخل ملتفة يمتد سوادها امتداد
البصر..
والمسافة بينها وبين بغداد ثلاثون
فرسخاً؛ أي عرض الجزيرة من هناك..
وبعد أن تم تخطيطها نُقِل إليها
العرب الذين بالمدائن بعد أن خيّرهم، فمَنْ شاء الإقامة بالمدائن تركه ومَنْ شاء
الرجوع إلى الكوفة رجع..
وصارت قاعدة أعمال العراق من ذلك
الحين..
وفي هذه السنة- على ما عليه أكثر
المؤرخين- أُسِّست مدينة البصرة، وهي قريبة من خليج فارس على مجتمع الدجلة والفرات،
أسسها عتبة بن غزوان بأمر عمر، وصارت قاعدة ثانية للعراق؛
لأن عمر قَسَمه قسميْن: أعلى-
وقاعدته الكوفة، وواليها سعد- وأسفل- وقاعدته البصرة، وواليها عتبة...
وقد كان يتبع الكوفة من ولايات
الفرس بعد افتتاحها:
الباب وأذربيجان وهمذان والري
وأصبهان وماه والموصل وقرقيسياء وكلها في الجهة الشمالية.
وكان
يتبع البصرة: خراسان وسجستان ومكران وكرمان
وفارس والأهواز.
غزو الفرس من البحرين
كان المسلمون في العصر الأول
يتنافسون فيما يُقَرّبهم إلى الله، فلما رأى العلاء بن الحضرمي- أمير البحرين-
نكاية سعد في الفرس أراد أن يؤثر فيهم أثراً مثله؛ فانتدب أصحابه لذلك فأجابوه..
فقسمهم ثلاث فِرَق:
- على إحداها الجارود بن المعلى
العبدي..
- وعلى الثانية سوار بن همام..
- وعلى الثالثة خليد بن المنذر بن
ساوى وهو الرئيس العام..
وأجازهم الخليج الفارسي لفتْح تلك
الجهات، ولكن مما يُؤسَف له أن هذا العمل كان بغير استشارة أمير المؤمنين عمر،
وخصوصاً أن الغزو من البحر كان مما لا يراه عمر بن الخطاب وكثيراً ما كان ينهى عنه
خوف الغرق..
فعبر جيش العلاء البحر وسار حتى
أتى اصطخر (وسط إقليم فارس وهي المدينة العظمى فيه) فخرج إليهم جمْع عظيم من الفرس
وحالوا بينهم وبين مراكبهم..
فلما علم بذلك خليد خطب أصحابه
فقال: (أما بعد فإن القوم لم يدعوكم إلى حربهم وإنما جئتم لهم، السفن والأرض لمَنْ
غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين).
ثم عبّأ جيشه وحَمَل، فقُتِل من
المسلمين الجارود وسوار وقُتِل من الفرس كثير.
ولما رأى المسلمون أن مُكْثهم وهم
قليلون وسط بلاد الفرس تغرير بهم أرادوا الرجوع إلى البصرة من طريق البر لأنه لا
سبيل لهم إلى السفن، فأخذ الفرس عليهم الطريق، فعسكروا وامتنعوا..
لما بلغ عمر فِعْلة العلاء وحصْر
المسلمين أرسل لعتبة بن غزوان أمير البصرة أن يُجهز جيشاً كثيفاً لتخليص المحصورين
قبل أن يهلكوا، فجهز لهم جيشاً فيه اثنا عشر ألف مقاتل فساروا حتى التقوا
بالمسلمين، وقد جمع لهم الفرس جمْعاً عظيماً فقاتلوهم حتى هزموهم وخلّصوا إخوانهم
من شر عمل لم يُستشَر فيه أمير المؤمنين وهذه أول غزوة شرفت بها نابتة البصرة وكان
عقاب عمر للعلاء أن صرفه عن إمارة البحرين وسيره إلى الكوفة ليكون تحت إمرة سعد.