صفحة جديدة 1
وقعة القادسية
ثم إن رستم سار بجيشه من الحيرة حتى نزل القادسية على العتيق (جسر القادسية) أمام
عسكر المسلمين يحول بينهم النهر..
ومع الفرس ثلاثة وثلاثون فيلاً، ولما نزل أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه،
فأرسل إليه ربعي بن عامر، فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب، وبُسُط النمارق والوسائد
منسوجة بالذهب..
فأقبل ربعي على فرسه، وسيفه في خرقة، ورمحه مشدود بعصب، فلمّا انتهى إلى البساط
وَطِئَه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقّهما وجعل الحبل فيهما، ثم أخذ عباءة
بعيره فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه، فقال: لو أتيتكم فعلت ذلك بأمركم وإنما
دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويُقارب خطوه حتى أفسد ما مر عليه من البسط، ثم
دنا من رستم وجلس على الأرض وركز رمحه على البساط وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم.
فقال له رستم: ما جاء بكم؟
قال: (الله جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن
ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسل لنا رسوله بدينه إلى
خَلْقه، فمَنْ قَبِلَه قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه، ومَنْ أبى قاتلناه حتى
نُفضي إلى الجنة أو الظفر).
فقال رستم: قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟
فقال: نعم (وإن مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نُمَكّن الأعداء أكثر
من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل:
الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك،
أو المنابذة في اليوم الرابع، إلا أن تبدأ بنا وأنا كفيل بذلك عن أصحابي)..
فقال رستم: أسيدهم أنت؟
قال: (لا.. ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يُجير أدناهم على أعلاهم) ثم
انصرف..
فخلا رستم بأصحابه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟!
فأروه الاستخفاف بشأنه..
فقال رستم: ويلكم! إنما أنظر إلى الرأي والكلام والسيرة، والعرب تستخف اللباس وتصون
الأحساب.
فلما كان اليوم الثاني من نزوله أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا هذا الرجل، فأرسل إليه
حذيفة بن محصن الغلفاني، فلم يختلف عن ربعي في العمل والإجابة، ولا غرابة فهما
مُستقيان من إناء واحد وهو دين الإسلام.
فقال له رستم: ما قعد بالأول عنّا؟
فقال: (أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء، وهذه نوبتي)..
فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟
قال: إلى ثلاث من أمس..
وفى اليوم الثالث أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة
فتوجّه إليه، ولما كان بحضرته جلس معه على سريره، فأقبلت إليه الأعوان يجذبونه فقال
لهم: (قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوماً أَسْفَه منكم، إنّا معشر العرب لا
يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون مُحارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما
نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض وأن هذا الأمر لا
يستقيم فيكم، وإني لم آتِكم ولكنكم دعوتموني، اليوم علمتُ أنكم مغلوبون، وأن مُلكاً
لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول)..
فقالت السوقة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين (زعماء الفلاحين): لقد رمى بكلام
لا تزال عبيدنا تنزع إليه، قاتَل الله سابقينا حيث كانوا يُصغّرون أمْر هذه الأمة..
ثم تكلم رستم بكلام عظّم فيه شأن الفرس وصغّر فيه شأن العرب، وذكر ما كانوا عليه من
سوء الحال وضيق العيش..
فقال المغيرة (أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا
نُنكره، والدنيا دُوَل، والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما آتاكم الله لكان شُكركم
قليلاً على ما أوتيتم، وقد أسلمكم ضعْف الشكر إلى تَغيّر الحال، وإن الله بعث فينا
رسولاً)..
ثم ذكر مثل ما تقدم وختم كلامه: بالتخيير بين الإسلام أو الجزية أو المنابذة.. ثم
رجع..
فخلا رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم؟ ألم يأتكم الأولان فجثراكم واستخرجاكم؟
ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا وسلكوا طريقاً واحداً ولزموا أمراً واحداً..
هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن بلغ من أدبهم وصونهم لسرهم
أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، لئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء
شيء.. فَلَجُّوا، ولم تنتفع الفرس بهذه الدعوة بل تمادوا في غيّهم ليقضي الله أمراً
كان مفعولاً..
فأجمع القائدان على المناجزة، وأقرا على أن يعبر الفرس نهر العتيق فعبروا، وعبأ
رستم جيشه العرمرم، وجعل بينه وبين يزدجرد بريداً يُخبره بالحوادث في أوقاتها..
وعبأ أمير المسلمين جيوشه، وكانت صفوفهم مع حائط قُديْس والخندق، فكان الجيشان بين
العتيق والخندق، وأرسل سعد رجالاً من ذوي المنطق الفصيح يُحرّضون على الجهاد، وأمر
القُرّاء بقراءة سورة الأنفال فقُرِئت، ولما أتمّوا قراءتها هشّت قلوب الناس
وعيونهم وعرفوا السكينة بقراءتها..
ثم قال لهم سعد: الزموا مصافكم، فإذا صليتُ الظهر فإني مُكَبّر، فإذا كبّرتُ الأولى
فكبروا واستعدوا، وإذا كبّرتُ الثانية فكبروا والبسوا عُدتكم، وإذا كبّرت الثالثة
فكبّروا ونَشِّطوا الناس، فإذا كبّرتُ الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوكم، وقولوا:
(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)..
يوم أرماث
وكان ذلك في المحرم من السنة الرابعة عشرة..
فلما كبّر سعد تكبيرته الأخيرة خرج أهل النجدات فأنشبوا القتال، ثم حمل الجيشان،
ولم يكن أشد على المسلمين من الفِيَلة، وكادت بجيلة أن تهلك لنِفار خَيْلها، فأرسل
سعد إلى بني أسد: أن دافعوا عن بجيلة، فقام رئيسهم طليحة بن خويلد بما عُهِد إليه
خير قيام، فلما رأى الأشعث ابن قيس ما يفعله بنو أسد قال لقومه: يا بني كندة! لله
درّ بني أسد أي فري يفرون، وأي هَذِّ يَهذُّون، أغنى كل قوم ما يليهم وأنتم تنتظرون
مَنْ يكفيكم، أشهد ما أحسنتم أُسوة قومِكم من العرب، ثم نهد فنهدوا معه وأزالوا
مَنْ بإزائهم..
ووجّه الفرس قوتهم إلى بني أسد لما رأوا من شدتهم على الفيلة، فدارت رحى الحرب على
بني أسد والفيلة تضربهم كثيراً، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو زعيم بني تميم: أن ينظر
حيلة للفيلة..
فنادى رماة قومه وقال لهم: ذُبُّوا رُكبان الفيلة عنهم بالنَّبل، وقال لآخرين:
استدبروا الفيلة فقَطِّعوا وِضْنها (الوضين بطان عريض منسوج من سيور أو شعر والبطان
حزام القَتَب) ففعلوا، فعوت الفيلة وقُتِل أصحابها..
فنُفِّسَ عن أسد بعد أن قتل منهم خاصة في هذه الموقعة نحو خمسمائة..
ولم يزل القتال ناراً تلظّى إلى أن غربت الشمس فانفصل الجيشان..
وهذا هو اليوم الأول من أيام القادسية ويسمى يوم أرماث، وتُسمى ليلته ليلة الهدأة
لأنه لم يحصل فيها قتال..
فلما أصبحوا وكَّل سعد بالجرحى مَنْ يداويهم وبالقتلى مَنْ يدفنهم، وعبّى الجيش كما
كان بالأمس..
وبينما هم مصطفون إذ قدم على المسلمين مَدد من الشام، بعثه بأمر عمر أبو عبيدة عامر
بن الجراح وعليه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الملقّب بالمِرقال (لقبه بذلك علي بن أبي
طالب يوم صفين لأنه أعطاه الراية فصار يُرْقِل بها أي يُسرِع)، وكان على مقدمته
القعقاع بن عمرو فوصل أولاً لأنه تعجّل.
ذِكْر يوم أغواث
فقدِم صبيحة اليوم الثاني من أيام القادسية فقويت به قلوب المسلمين..
ولم يلبث حتى خرج يطلب البِراز فبرز إليه ذو الحاجب صاحب وقعة الجسر، فعرفه القعقاع
ونادى: يالثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب الجسر..
ثم تضاربا فقُتل ذو الحاجب وأفرح قتْله المسلمون بقدر ما أحزن المشركين، ثم حمي
القتال..
وفي هذا اليوم شعر المسلمون بالظفر لأن الفيلة كانت تكسرت توابيتها فاشتغل الفرس
بإصلاحها..
وحمل بنو عم للقعقاع عشرة عشرة على إبل قد ألبسوها وهي مُجلّلة مُبرقعة، وأطافت بها
خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوها على خيل الفرس يتشبّهون بالفيلة، فلقيت
منها خيل الفرس أعظم ما لاقت خيل المسلمين بالأمس، وأظهر القعقاع في هذا اليوم
شجاعة عظمى واستمر القتال إلى نصف الليل فانفصل الجيشان..
ويُسمى هذا اليوم يوم أغواث وهو اليوم الثاني من أيام القادسية وتُسمى ليلته: ليلة
السواد..
ذِكْر يوم عِماس
ثم أصبحوا هم اليوم الثالث وهو يوم عِماس على مصافهم، وبين الصفين من جرحى المسلمين
وقتلاهم ألفان، فنقلهم إخوانهم؛ الجريح للمداواة والقتيل للدفن، وكانت النساء هُنّ
اللاتي يداوين الجرحى..
أما قتلى المشركين الذين يزيدون على عشرة آلاف فلم يعتن قومهم بنقلهم..
وفى هذا اليوم أقبل هاشم المِرقال في بقية جيشه..
وقد احترس الفرس في هذا اليوم على الفيلة؛ فجعلوا وراءها رجالاً يحمونها لئلا
تُقطَع وُضُنُها، ولكن خيل المسلمين لم تنفر منها لأن الفيل إذا كان وحده كان أوحش
وإذا أحاط به الرجال كان آنس، ولأن الخيل أيضاً تعودت رؤيتها..
ثم ابتدأ القتال وحمي وطيسه، فانتدب سعد القعقاع ومعه آخر لقتْل الفيل الأبيض وهو
كبير الفيلة، وانتدب آخريْن لقتْل الفيل الأجرب..
فذهب القعقاع ورفيقه وأشرع كل منهما رمحه فوضعه في عين الفيل فوقع لجنبه، ثم قتلا
ساسته..
وذهب الآخران فطعن أحدهما الفيل في عينه فأقعى (تساند إلى ما وراءه) ثم استوى،
فضربه الثاني فأبان مِشْفَرَه، فولّى الفيل لا يلوي على شيء حتى رمى نفسه في
العتيق، وتبعه الفيلة فخرجت صفوف الأعاجم وعبرت العتيق..
وظل القتال مستمراً حتى جاء المساء فانفصل الجيشان قليلاً..
ثم أمر سعد بمُعاودة القتال متى أعلن بشعار القتال وهو (الله أكبر)..
فأعجلتهم الفرس عن انتظار تكبير سعد، فحمل القعقاع ولم ينتظر، فقال سعد: اللهم اغفر
له وانصره فقد أذِنت له وإن لم يستأذني، لأن المسلمين قد جرّبوا نتائج العصيان في
وقعة أُحد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاف سعد أن يُعاقبوا فأذِن في
القتال وإن لم يستأذنوه..
ثم حمل بنو أسد فقال سعد: اللهم اغفر لهم وانصرهم فقد أذِنتُ لهم، وهكذا كان يقول
رضي الله عنه كلما حمل قوم قبل إعلانه التكبير..
فلما صلى العشاء كبّر فحمل المسلمون كلهم، وكانت ليلة ليلاء، صوت الحديد فيها كان
كصوت القيون..
وترك المسلمون الكلام، وإنما كانوا يهِرّون هريراً، ولذلك سُميت هذه الليلة ليلة
الهرير..