صفحة جديدة 1
وأرسل إليه عهداً هذه صورته:
(بسم الله الرحمن الرحيم) أما بعد فإني آمرك ومَنْ معك من الأجناد بتقوى الله على
كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومَنْ
معك أن تكونوا أشد احتراساً منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم
وإنما يُنصَر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا
ليس كعددهم وعدتنا ليست كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في
القوة وإلا نُنصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا..
فأعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا
تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا فلن يُسلَّط
علينا، فرُبّ قوم سُلِّط عليهم مَنْ هو شر منهم كما سُلِّط على بني إسرائيل لما
عملوا بالمعاصي كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً..
وسلوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم وأسأل الله ذلك لنا
ولكم.
وترفَّق بالمسلمين في سيرهم ولا تجشمهم مسيراً يُتعبهم ولا تُقَصِّر بهم عن منزل
يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص من قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم
جامي الأنفس والكُراع..
وأقم بمَنْ معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يُجمّون بها الأنفس
ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من
أصحابك إلا مَن تثق بدينه ولا يرزأ أحد من أهلها شيئاً، فإن لهم حرمة وذمة ابتُليتم
بالوفاء بها كما ابتُلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولوهم خيراً ولا تُنصَروا
على أهل الحرب بظلم أهل الصلح..
وإذا وَطِئْتَ أرض العدو فأَذْكِ العيون بينك وبينهم، ولا يَخْفَ عليك أمرهم،
وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض مَنْ تطمئن إلى نُصحه وصِدْقه، فإن الكذوب لا
ينفعك خبره وإن صدقك في بعض، والغاش عَيْن عليك وليس عيناً لك، وليكن منك عند
دُنُوّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا
أمدادهم ومَرَافِقَهم وتتّبع الطلائع عوراتهم، واختر للطلائع أهل البأس والرأي من
أصحابك وتخيّر لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدواً كان أول ما تلَقَّاهم القوة، واجعل
أهل السرايا من أهل الجهاد والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحداً بهوى فتُضيّع من
رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه
غلبة أو ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع
إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم بالمناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تُبصر عورة
عدوك ومَقَاتله وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها فتصنع بعدوك كصُنعه بك، ثم أذْكِ
حراسك على عسكرك، وتيقّظ من البيات جهدك، ولا تُؤتَى بأسير ليس له عقد إلا ضربت
عنقه لتُرهِب به عدو الله وعدوك، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم
والله المستعان)..
ولما وصل سعد زرود بلغه أن المثنى تُوفي من أثر جراحة أصابته وأنه ولّى على جيشه
بشير بن الخصاصية، فجمع سعد إليه جيش المثنى وكان ثمانية آلاف، وعسْكَرَ بشراف،
وعبّى الجيش وأمّر الأمراء، وعرّف على كل عشرة عريفاً، وجعل على الرايات رجالاً من
أهل السابقة أيضاً..
ورتّب المقدمة والساقة والمجنّبات والطلائع؛ فجعل على المقدمة زُهرة ابن الحوية
فانتهى إلى العُذَيْب، وعلى الميمنة عبد الله بن المُعْتَمّ، وعلى الميسرة شرحبيل
بن السمط الكندي وخليفته خالد بن عرفطه، وعلى الساقة عاصم بن عمرو، وعلى الطلائع
سواد بن مالك، وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلي، وعلى الرجّالة حمّال بن مالك
الأسدي، وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الحنفي، وعلى القضاء بينهم عبد الرحمن
بن ربيعة الباهلي، وكاتب الجيش زياد بن أبي سفيان، ورائده وداعيه سلمان الفارسي وكل
ذلك بأمر من عمر..
ابتداء أمر القادسية
ثم سار حتى نزل القادسية (قرية قُرب الكوفة ينزل بها حاج الكوفة الآن) بين العتيق
والخندق (هو حفير لسابور ملك الفرس ببرية الكوفة) والعتيق من فروع الفرات بحيال
القنطرة (وهى قرية بها قنطرة على فرع من فروع الفرات فعُرفت القرية بها)..
وكتب عمر إلى سعد: (إني أُلقي في رُوعي أنكم إذا لقيتم العدو غلبتموهم فمتى لاعَب
أحد منكم أحداً من العجم بأمان أو إشارة أو لسان كان عندهم أماناً فأَجْروا ذلك
مُجْرَى الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر هلكة وفيها
وَهَنُكم وقوة عدوكم)..
وأقام سعد بالقادسية شهراً لا يأتيه من الفرس خبر فبثّ سراياه بين كسكر والأنبار،
فأغارت على مَنْ ليس لهم ذمة ومَنْ غدر من أهلها فأرسل أهل السواد إلى يزدجرد ملك
الفرس يُخبرونه بما صنع المسلمون، وأعلموه أنه إن تأخر ألقوا بأيديهم، فأرسل يزدجرد
إلى رستم وأمره بالاستعداد والتأهب ليكون قائداً لجيش عظيم يحارب المسلمين، فأمتثل
كُرهاً لأنه كان من رأيه مطاولة المسلمين حتى يَهِنوا، وخرج فعسكر بساباط..
وبلغ خبره سعداً فبلغه عمر فأرسل إليه عمر: (لا يكربنك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله
وتوكل عليه، وابعث رجالاً من أهل المناظرة والرأي والجَلَد يدعونه إلى الله، فإن
الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم)..
فأرسل سعد جماعة من الأشراف دعاةً إلى يزدجرد منهم النعمان بن مُقَرِّن، والمغيرة
بن زرارة، والأشعث بن قيس، وفرات بن حيان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدي كَرِب،
والمغيرة بن شعبة..
فلما وصلوا المدائن أُدْخِلوا على يزدجرد، فسألهم بواسطة ترجمانه: ما جاء بكم
ودعاكم إلى غزْونا والولوغ ببلادنا؟ أَمِنْ أجل أنّا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟
فتكلم عنهم النعمان بن مقرن فقال: (إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا
بالخير وينهانا عن الشر ووعدنا على إجابته خيري الدنيا والآخرة، فلم يَدْعُ قبيلة
إلا قاربه منها فِرْقة وتباعد عنه منها فِرْقة، ثم أمَر أن نبتدئ بمَنْ خالفه من
العرب فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين: مُكْرَه عليه فاغتبط، وطائع فازداد،
فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنّا عليه من العداوة والضيق، ثم أمر أن
نبتدئ بمَنْ جاورنا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف؛ فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين
حسَّن الحسن وقبَّح القبيح كله، فإن أبيتم: فأمْر من الشر أهون من آخر شر منه
الجزية، فإن أبيتم: فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلَّفنا فيكم كتاب الله وأقمنا
على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء (الجزية)
قبِلْنا منكم ومنعناكم وإلا قاتلناكم)..
فقال يزدجرد: إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى، ولا أقل عدداً، ولا أسوأ ذات
بيْنٍ منكم، فقد كنّا نوكِّل بكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم، ولا تطمعوا أن تقوموا
لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغرّنّكم منّا، وإن كان الجُهد فرضنا لكم قوتاً إلى
خِصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملّكنا عليكم ملكاً يرفق بكم..
فقام المغيرة بن زرارة فقال: أمّا ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفتَ وأشدّ، ثم ذكر
من سوء عيْش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي صلى الله عليهم وسلم مثل مقالة
النعمان..
ثم قال: (اختر إما الجزية عن يد وأنت صاغر أو السيف وإلا فنَجِّ نفسك بالإسلام)..
فقال يزدجرد: لولا أن الرسل لا تُقتَل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ثم استدعى
بِوِقْرٍ من تراب، وقال لقومه: احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب
المدائن، فقام عاصم بن عمرو وقال: أنا أشرفهم وأخذ التراب فحمله، وخرج إلى راحلته
فركبها ولما وصل إلى سعد قال له: أبْشِر فوالله لقد أعطانا الله أقاليد مُلكهم..
ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل مائة ألف أو يزيدون من ساباط، فلمّا مرَّ على كوثى
(قرية بين المدائن وبابل) لقيه رجل من العرب فقال له رستم: ما جاء بكم وماذا تطلبون
منّا؟..
قال: جئنا نطلب موعود الله بمُلك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تُسْلِموا..
قال رستم: فإن قُتلتم قبل ذلك؟
قال: مَنْ قُتِل منّا دخل الجنة ومَنْ بقي أنجزه الله وعده فنحن على يقين.
قال رستم: قد وُضِعْنا إذاً في أيديكم..
قال العربي: أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرّنّك ما ترى حولك، فإنك لست
تجادل الإنس وإنما تجادل القدر، فغضب منه رستم وقتله..
فلما مر بجيشه على البرس (قرية بين الكوفة والحلة) غصبوا أبناء أهله وأموالهم
وشربوا الخمور ووقعوا على النساء فشكى أهل البرس إلى رستم، فقال لقومه: والله لقد
صدق العربي، والله ما أَسْلَمَنَا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم حرب
أحسن سيرة منكم..
ثم سار حتى نزل الحيرة فعنّف عظماءها على الاستسلام للمسلمين فقال له ابن بُقيلة:
لا تجمع علينا أن تعجز عن نُصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا..
(ولما) علم سعد أمير جيش المسلمين خبر رستم أرسل عمرو بن معدي كَرِب الزبيدى وطليحة
بن خويلد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا
سرح العدو منتشراً على الطفوف، فرجعوا إلا طليحة فإنه ظل سائراً حتى دخل جيش العدو
وعلم ما فيه فرجع إلى سعد وأخبره خبره.