صفحة جديدة 2
وقعة النمارق
فسار إليهم أبو عبيد وقاتلهم قتالاً شديداً حتى أسرهم وأسر جابان ومردان شاه اللذين
كانا في ميمنة الجيش..
فأما مردان شاه فقُتِل، وأما جابان فخدع آسِرَه حتى أمّنه، فأخذه المسلمون وأتوا به
أبا عبيدة، وأشار بعضهم بقتْله، فقال لهم: إني أخاف الله أن أقتله وقد أمّنه رجل
مسلم، والمسلمون كالجسد الواحد ما لزم بعضهم فقد لزم كلهم.
أما المنهزمون فلحقوا بكسكر وعليها نرسي، وبلغ خبر هذه الهزيمة بوران ورستم، فأرسلا
جيشاً عظيماً يقوده الجالينوس مَدداً لأهل كسكر، فسار أبو عبيد إلى كسكر، وقاتل بها
قبل مجيء الجالينوس وهزمهم شر هزيمة، ثم بث سراياه إلى باروسما والزوابي ونهر جوب
روسما (بلد شمالي واسط في العراق)، والزاب (نهر بين سوراء وواسط ونهر آخر بقُربه،
وعلى كُلٍّ منهما كورة وهما الزابان، وتُجمع بما حواليه من الأنهار فيُقال لها:
الزوابي، ونهر جور كذلك من الأنهر المتشعبة في جنوبي الجزيرة)..
فهزمت السرايا مَنْ تَجَمَّع في هذه الجهات من الفرس، وطلب أمراؤها الصلح
فأُجِيبوا ودفعوا الجزاء مُعجلاً، ثم جاءوا إلى أبي عبيد بأنواع الأطعمة المحبوبة
عند الفرس فقال لهم: هل أكرمتم الجند بمثلها؟ فقالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون، فقال
أبو عبيد (لا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد أن صحب قوماً من بلادهم استأثر
عليهم بشيء، ولا والله لا آكل ما أَتيتم به ولا مما أفاء الله إلا مثل ما يأكل
أوساطهم)..
فليتأمل المسلمون كيف كان سلفهم رضي الله عنهم..
ثم سار حتى لقي الجالينوس بباقسيانا من باروسما فقاتله حتى هرب وانهزم جيشه، فأرسل
أبو عبيد إلى عمر بالبشارة والأخماس وفيها تمر كان لترسي لا يأكله إلا ملوك الأعاجم
أو مَنْ أكرموه بشيء منه ولا يغرسه غيرهم..
كتب إلى عمر رضي الله عنه: (إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة تحميها وأحبنا أن
تروها لتشكروا إنعام الله وإفضاله) ولما رجع الجالينوس إلى رستم منهزماً جهّز جيشاً
عظيماً تحت قيادة بهمن جاذويه المعروف بذي الحاجب ومعه الراية العظمى لفارس واسمها
(درفش كابيان)- عرضها ثمانية أذرع في طول اثني عشر من جلود النمر-..
فلما بلغ ذلك أبا عبيد رجع إلى الحيرة وأقبل الجالينوس حتى نزل قُس الناطِف على
الفرات، وأقبل أبو عبيد فنزل عُدوته مُقابِلاً لجيش الفرس، وبين الفريقين نهر
الفرات فنصب الفرس جسراً عليه.
وقعة الجسر
وخَيَّر بهمن المسلمين في أن يعبروا هم أو يعبر الفرس إليهم فاختار أبو عبيد
العبور، فنهاه ذوو الرأي منهم فلم يقبل، وقال: لا يكون الفرس أجرأ على الموت منا..
فعبروا واشتد القتال، وكانت الفيلة كثيرة في جيش الفرس فهابتها خيل المسلمين واشتد
الأمر عليهم، فقال أبو عبيد: احتوشوا الفيلة واقطعوا بطانها، واقلبوا عنها أهلها،
ووثب هو على الفيل الأبيض ففعل به ذلك، ولكن الفيل خبطه بيده فوقع فوطئه الفيل حتى
مات..
فأخذ الراية الذي أمّره بعده فقاتل عن جثته حتى تمكن من أخْذها ثم قُتِل، فتتابع
على الراية سبعة نفر من ثقيف كلهم يأخذ الراية ويُقتَل، ثم أخذ الراية المثنى، فرأى
أن الأمر اشتد على المسلمين، وابتدأ بعضهم بالهزيمة فرأوا الجسر مقطوعاً قطعه أحد
المسلمين لئلا يفروا، فلم يُعِقهم ذلك بل نزلوا في الفرات فغرق بعضهم ونجا آخرون..
فنادى المثنى مَنْ عبر وأمرهم بعقد الجسر، فعقدوه، وأمر المسلمين بالعبور، وقال:
أعبروا على هينتكم فأنا دونكم ولا تدهشوا ولا تُغرِقوا نفوسكم، وبقي هو حتى عبر
مَنْ عبر ثم عبر آخرهم، وكان مِمَّنْ قُتِل على الجسر سليط بن قيس..
ومات من المسلمين في هذه الوقعة ما ينيف عن أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وقد ذهب
كثير ممَّنْ عبر عن المثنى استحياءً مما فعلوه من الهزيمة فبقي المثنى جريحاً في
قِلّة من جيشه..
ومنع الله بهمن عن العبور خلف المسلمين بما بلغه من اختلاف الفرس وانقسامهم قسمين؛
قسم يريد رستم وقسم يريد الفيرزان فرجع عن قصْده..
ولما بلغ عمر خبر هذه الهزيمة وأن كثيراً من الناس ذهبوا في البلاد استحياءً قال:
(اللهم إن كل مسلم في حل مني، أنا فئة كل مسلم، يرحم الله أبو عبيد لو كان انحاز
إلي كنت له فئة)..
ثم أَمَدَّ المثنى بجيوش كثيرة فيهم جرير بن عبد الله البجلي وقومه، وعِصمة بن عبد
الله الضبي وقومه، واستنفر مَنْ حسُنَت توبته من المرتدين، فكلما أتاه أحد منهم
وجّهه إلى المثنى..
(أما) رستم والفيرزان اللذان يتنازعان إمرة الفرس فإنهما لما علما بذلك وجّها
جيشاً بقيادة مِهران الفارسي إلى الحيرة، فكتب المثنى إلى جرير وعصمة ومَنْ معهما
أن يوافوه بالعُذيب (مما يلي الكوفة الآن)..
وسار المثنى حتى التقى بهم هناك، فلقوا جيش مهران وبينهما نهر الفرات، فاختار
المثنى أن يعبر إليه الفرس لأن المسلم لا يُلدغ من جحر مرتين، فأبلغ الفرس ذلك
فعبروا، أما المثنى فسوّى صفوفه وصار يُحرّض المسلمين ويعظهم ويقول: إني لأرجو ألا
يُؤتَى الناس من قِبَلكم اليوم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني
لعامتكم، وأَنْصَفَ الناس من نفسه في قوله وفِعْله وخَلَطَهَم في المحبوب
والمكروه..
وقال: إني سأُكَبِّر ثلاثاً فإذا كبرت الرابعة فاحملوا، فلما كبَّر الأولى أعجلتهم
الفرس فرأى خللاً في صفوف بني عجل، فأرسل إليهم: الأمير يقرئكم السلام، ويقول لكم:
لا تفضحوا المسلمين اليوم، فاعتدلوا.. فضحك فرحاً..
ثم اشتد القتال، وحمل المثنى على قلب المشركين وفيه مِهران والمجنِّبتان تقتتلان
لا تستطيع إحداهما أن تُفرغ النصر لأميرها لا المسلمون ولا المشركون، فتغلَّب قلب
الإسلام على قلب الشرك وأوجع فيه حتى قُتل مهران، فلما رأى ذلك مُجنبتا المسلمين
مالوا على مَنْ أمامهم ميلة واحدة فردّوهم على أعقابهم مدحورين فتسابقوا إلى الجسر
يريدون العبور، فسبقهم إليه المثنى وحال بينهم وبين ما يشتهون، فافترقوا مصعدين
ومنحدرين، وكان المثنى رضي الله عنه يذكر هذا العمل من زلاته ويقول: (لا ينبغي
إحراج من لا يقوى على امتناع)..
ثم سَيَّر سرية لتعقب الفرس فبلغت ساباط (موضع بالمدائن) وأفتتحها وصار بعد ذلك
طريق المسلمين من الحيرة إلى شواطئ دجلة آمنا..
خبر الخنافس وسوق بغداد
ثم سار قاصداً سوق الخنافس (موضع قرب الأنبار) وسوق بغداد بعد أن خلّف على الحيرة
بشير ابن الخصاصية، فأغار عليهما وسار حتى نزل نهر السالفين بالأنبار، ثم سرّح سرية
لقتال جمْع من العرب بصفين (موضع غربي الفرات من جهة الشمال وهى الآن في ولاية حلب
الشهباء)، فسارت إليهم وهزمتهم..
وبذلك صار سواد العراق للمسلمين يأخذون الجزية من أهل الذمة، ويستغلون ما فتحوه
عنوة..
ولم تبق للفرس سلطة ما غربي الفرات، وضعفت في بلاد الجزيرة فتأثر من ذلك عامة الفرس
ورأوا مُلكهم آخذ في الاضمحلال فالزوال إن لم يتلافوا الأمر فيسعوا أولاً في إزالة
هذه الاختلافات التي كادت تقضي على حياتهم..
ذِكْر الخبر الذي هيّج أمر القادسية ومُلك يزدجرد
فاجتمع كبراؤهم عند رستم والفيرزان وقالوا لهما: إنه لم يساعد العرب ويُكسبهم
الظفر علينا إلا تفرقكم وتخاذلكم، فإن لم تحسموا هذا النزاع وتلتفتوا لعدوكم بدأنا
بكم فاشتفينا قبل أن يضيع مُلك فارس..
فانتهى الأميران إلى قول العظماء، وبحثا عن رجل من آل كسرى يصلح لولاية الملك..
وبعد الجهد وجدوا ابنا له اسمه يزدجرد، فتوّجاه بتاج المُلك وفرح به الأمراء وجميع
الرعية، وأطاعه الكل، فسمى جيوشاً لحماية ثغور البلاد واسترداد ما فُقد منها،
فسيَّر جيشاً للأُبُلّة، وجيشاً للحيرة، وجيشاً للأنبار، وكانت هذه أعظم ثغورهم من
الجهة الغربية..
فبلغت المثنى هذه الأخبار فأرسل لعمر بها فقال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك
العرب فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي أو شرف وبسطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم
به..
وكتب إلى المثنى يأمره بالانسحاب من أرض العجم والتفرق في المياه حتى تجتمع
الجيوش، وأمره ألا يدع في ربيعة ومضر أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلا أحضره
طوعاً أو كرهاً، فأنزل المثنى جيشه على حدود بلاد الفرس أولهم بالحِلة وآخرهم بغضّى
(وهو جبل البصرة) متناظرين يغيث بعضهم بعضاً..
وكتب عمر إلى عماله أن يبعثوا مَنْ كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي، وخرج إلى
الحج سنة ثلاث عشرة فحج ورجع، فجاءته أفواجهم إلى المدينة، ومَنْ كان أقرب إلى
العراق انضم إلى المثنى، فلما اجتمع عند عمر جيش عظيم خرج بهم من المدينة بعد أن
استخلف عليها علي بن أبي طالب..
ونزل بصرار (موضع قرب المدينة) فعسكر به والمسلمون لا يعلمون قصده أيسافر إلى
العراق أم يقيم، فسأله عثمان بن عفان عن حركته فأعلمهم واستشارهم أيقيم ويولي قيادة
الجيش غيره أم يقود الجيش بنفسه؟
فقال العامة: سِر وسِر بنا معك..
وأشار خاصة أصحاب رسول الله ﷺ بالمقام وتوليه رجل من أهل الشهامة والنجدة أميراً
على الجيش فتبع رأيهم، وانتخب لقيادة هذا الجيش العظيم سعد بن أبي وقاص الزهري
القرشي خال رسول الله ﷺ فولاه ووصاه، وكان فيما قال له: «يا سعد بن أم سعد لا يغرنك
من الله أن يقال خال رسول الله وصاحب رسول الله فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ
ولكنه يمحو السيئ بالحسن وليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته فالناس في ذات-
(دين)- الله سواء وهم عباده يتفاضلون عنده بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة فانظر
إلى الأمر الذي رأيت رسول الله ﷺ يلزمه فألزمه»، ثم سرّحه بأربعة آلاف وأتبعه
بمثلها..