صفحة جديدة 1
وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت
إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه
بالمدينة وفدك (قرية بخيبر) وما بقي من خمس خيبر
فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة، إنما
يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن حالتها التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعمل فيها
إلا بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم»..
فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر
في ذلك..
قال: فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة
أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب-t-
ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها..
وكانت لعلي من الناس وجهة في حياة فاطمة فلما توفيت استنكر علي
وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته،
ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية
محضر عمر بن الخطاب، فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر:
وما عساهم أن يفعلوا بي؟ والله لآتينهم، فدخل عليهم أبو بكر
فتشهد علي بن أبي طالب-t-
ثم قال: إنّا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولا ننفس عليك خيراً ساقه
الله إليك،
ولكنك استبددت علينا بالأمر
وكنا نحن نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا
بكر حتى فاضت عينا أبي بكر، فلما بكى أبو بكر قال: لَقرابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم أحبُّ أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم
آلُ فيها عن الحق، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا
صنعته...
فقال لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة.
فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر فتشهّد وذكر شأن علي وتخلُّفه عن
البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر، وتشهد علي بن أبي طالب فعظم شأن أبي بكر
وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر، ولا إنكار للذي فّضّله الله به،
ولكنّا كنّا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد به فوجدنا في أنفسنا..
فسُرّ بذلك المسلمون، وقالوا: أصبت، وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر
بالمعروف.
ولما قُضِي الأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه صعد المنبر فقال بعد أن حمد الله
وأثنى عليه: «أيها الناس قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن صدفت
فقوّموني
الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم
ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد؛ فإنه لا يدعه قوم
إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا
طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله»..
ترجمة أبي بكر
هو أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة بن
كعب بن لؤي بن غالب بن فهر التيمي القرشي، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في
مُرة بن كعب..
وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وُلد رضي الله عنه لسنتين من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشب على الأخلاق الفاضلة والسيرة الكريمة، وكان ذا يسار يحمل الكل ويكسب المعدوم..
وكان مُصاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة فلما شرَّف الله محمداً
برسالته كان أبو بكر أول رجل أجابه، حتى قال عليه الصلاة والسلام: «ما دعوت أحداً
إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر»..
ثم قام بدعوة إخوانه وأصدقائه من قريش إلى هذا الدين فأجابه جمْع منهم عثمان بن
عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وغيرهم..
ولما آذى المشركون مَنْ أسلم من عبيدهم كان لأبي بكر اليد الطولى في شرائهم وعتقهم
ابتغاء وجه ربه الأعلى؛ منهم بلال بن رباح وعامر بن فهيرة وغيرهما.
وقد أراد الهجرة إلى الحبشة مع مَنْ هاجر، فمنعه من ذلك ابن الدِّغِنة سيد القارة،
وقال: مثل أبي بكر لا يُخرَج، وجعله في حمايته..
فأقام أبو بكر على ذلك زمناً ثم ترك هذه الحماية راضياً بحماية الله سبحانه وتعالى؛
إذ لا يليق بالمسلم القوي الإيمان أن يرضى بحماية غير الله جل جلاله.
ولما أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى المدينة كان له شرف الصحبة
بنص القرآن الشريف قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة: ﴿إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾[التوبة:40].
وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته عائشة، وسِنّها إذ ذاك سبع سنوات، وبنى
بها وهو في المدينة
وسنها تسع سنوات.
وشهد أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهده كلها وكان يحمل رايته العظمى
في آخر غزواته وهي غزوة تبوك.
وأمره عليه الصلاة والسلام أن يحج بالمسلمين في السنة التاسعة.
ولما مرض عليه الصلاة والسلام أمره أن يصلي بالناس وهذه أعظم إشارة لاستحقاقه
الخلافة من بعده.
وكان له من الولد عبد الله الذي جُرِح بالطائف وتوفى في أول خلافة أبيه، وأسماء زوج
الزبير ابن العوام وأم عبد الله بن الزبير، وله عبد الرحمن، وأم المؤمنين عائشة،
ومحمد الذي ولى مصر في مدة علي بن أبي طالب وقتل بها، وأم كلثوم التي وُلدت بعد
وفاته..
وكان رضي الله عنه أبيض خفيف العارضين، أجنأ، لا يستمسك إزاره، معروق الوجه «قليل
لحمه»، نحيفاً، أقنى، غائر العينين، يخضب بالحناء والكتم..
ولما تولى الخلافة كان منزله بالسنح (وهو محلة خارج المدينة)، فكان يأتيها كل يوم
ماشياً، وربما ركب فرسه، ثم انتقل إلى المدينة بعياله بعد ستة أشهر من خلافته، وترك
تجارته التي كان ينفق منها على عياله، وقال: ما تُصلح الناس أمور التجارة، وما يصلح
لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم..
وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يوماً بيوم، وكان يحج ويعتمر، ثم فرضت له
الأمة شيئاً معلوماً يقوم بكفايته وقدره ستة آلاف درهم سنوياً..
ومن مآثره رضي الله عنه: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حقه:
«إن من أمَنّ الناس علي في صحبته أو ماله أبا بكر ولو
كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا
يبقين في المسجد بابٌ إلا سد إلا باب أبي بكر».
وجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن
جئت ولم أجدك- كأنها تقول الموت- قال صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجديني
فائتي أبا بكر».
وحدَّث
أبو الدرداء قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أقبل أبو بكر آخذاً
بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما
صاحبكم فقد غامر (ألقى
بنفسه في الشدة) فسلّم وقال: يا رسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت
إليه ثم ندمتُ، فسألتُه أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال:
«يغفر
الله لك يا أبا بكر ثلاثاً»...
ثم إن عمر قدم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى
الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر (يتغير غيظاً)
حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله
بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي
صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها»..