صفحة جديدة 1
أعماله في خلافته
أول عمل بدأ به أبو بكر تسيير جيش أسامة بن زيد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم
جهزه إلى أُبنى ولم يثنه عن ذلك ما حصل من الاضطرابات في بلاد العرب عقب وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقد طلب بعض كبار الأنصار على لسان عمر بن الخطاب من أبي
بكر أن يولي إمارة الجيش رجلاً أسن من أسامة، فغضب أبو بكر حتى قام وقعد، وقال: يا
عمر استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله؟! ثم خرج رضي الله عنه،
وشيع الجيش بنفسه ماشياً وأسامة راكب فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله! لتركبن أو
لأنزلن، فقال أبو بكر : والله ما نزلتَ ولا ركبتُ وما عليّ أن أغبّر قدمي ساعة في
سبيل الله، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تُكتب له، وسبعمائة درجة ترفع
له وستمائة سيئة تُمحى عنه، ثم وصاه هو وأصحابه فقال: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا
تغلوا ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعزقوا
نخلاً ولا تُحرّقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً
إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له،
وإذا لقيتم قوماً فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاضربوا بالسيف ما
فحصوا عنه، فإذا قًرّب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله..
يا أسامة! اصنع ما أمرك نبي الله ببلاد قضاعة، ثم ائتِ آبِل، ولا تقصر من أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم ودّعه من الجُرف ورجع (والجرف موضع قرب المدينة)..
ورغب أسامة من عمر بن الخطاب التخلف عن هذا البعث والمقام مع أبي بكر شفقةً من أن
يدهمه أمر فأِذن أبو بكر لعمر في ذلك.
وسار أسامة حتى انتهى لما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث الجنود إلى
بلاد قضاعة (وكان لبني قضاعة ملك ما بين الشام والحجاز إلى العراق في أيلة، وجبال
الكرك إلى مشارف الشام..
واستعملهم الروم على بادية العرب هنالك، وكان أول الملك فيهم في تنوخ منهم، ثم
غلبهم عليه بنو سليح، وكانت رياستهم في ضجعم بن معد منهم، ثم غلبهم على هذا الملك
بنو غسان الذين جاءوا من اليمن فصار ملك العرب بالشام لبني جفنة الذين مدحهم حسان
بن ثابت)..
وأغار أسامة على أُبنى فسبى وغنم، ورجع إلى المدينة ظافراً بعد أن غاب عنها بعد
أربعين يوماً، وكان إنفاذ هذا الجيش من أعظم الأمور نفعاً للمسلمين فإن العرب
قالوا: لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا عزموا
عليه..
أخبار الردة
مُني الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصيبة عظيمة لو لم تتداركها
حكمة أبي بكر رضي الله عنه لضعف الدين وتشتت شمل المسلمين، فإن العرب ما لبثت بعد
أن علمت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتدت..
ولم يبق أحد متمسكاً بدينه منهم إلا قريشاً بمكة وثقيفاً بالطائف وقليلاً من
غيرهم..
وكان الناس في ذلك على قسمين فمنهم التارك الدين بالمرة وهم بنو طيء، وأسد، ومَنْ
تبعهم من غطفان الذين اتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي، وبنو حنيفة الذين اتبعوا
مسيلمة، وأهل اليمن الذين اتبعوا الأسود العنسي، وكثير غيرهم..
ومنهم المعطل للزكاة وهم بعض بني تميم الذين يرأسهم مالك بن نويرة وبنو هوازن
وغيرهم.
وكان من رأي أبي بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة كما يقاتل المرتدون لأن تعطيل
الزكاة طعن على الصلاة بل على جميع منازل الدين، فقال له عمر بن الخطاب: يا أبا
بكر! كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا
بحقه وحسابه على الله»؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن مَنْ فرّق بين
الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَنَاقاً كانوا يؤدونها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منْعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن
رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعلمتُ أنه الحق (رواه البخاري)..
فشمر رضي الله عنه عن ساعد الجد غير مبال بهذه الأهوال الجسام مع قِلة جيشه وكثرة
عدوه واثقاً بوعده سبحانه وتعالى
في قوله:
﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[محمد:7]..
وها نحن نسوق لك حروب الردة لتعرف كيف ينجح الإنسان إذا اعتمد على ربه واستسهل
المصاعب وليعلم المسلمون كافة فِعْل خليفتهم الأول عندما كان المسلمون كالغنم في
الليلة الممطرة لقلتهم وكثرة عدوهم وإظلام الجو بفقد نبيهم.
خبر عبس وذبيان
أقام أبو بكر ينتظر جيش أسامة فعاجلته عبس وذبيان ومنازلهم بنجد مما يلي وادي القرى
وجبل طيء، فنزل بعضهم بالإبرق ونزل آخرون بذي القَصَّة (موضعان شمالي المدينة
الغربي جهة نجد) واجتمع معهم جماعة من بني أسد ومَنْ انتسب إليهم من كنانة..
وقد بعثوا وفداً لأبي بكر يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة فأبى أبو بكر
ورّدهم خائبين..
وخشي على المدينة من البيات فجعل على أنقابها علياً وطلحة والزبير وعبد الله بن
مسعود وأمر أهل المدينة بلزوم المسجد..
فلما رجع وفد مانعي الزكاة إلى قومهم أطمعوهم في المدينة لقِلة من فيها..
فأغاروا عليها فأرسل مَنْ بالأنقاب إلى أبي بكر فخرج بالمسلمين على النواضح «الإبل
التي يسقى عليها» فهرب العدو وتبِعهم المسلمون إلى ذي خُشب (وادي بقرب المدينة)،
فخرج عليهم ردء للعدو بقِرَبٍ قد نفخوها وفيها الحبال ثم دهدهوها (دحرجوها) على
الأرض فنفرت إبل المسلمين ورجعت بهم إلى المدينة ولم يُصرَع أحد منهم بفضل الله..
ثم خرج أبو بكر ليلاً على تعبئةٍ وبيّت الأعداء فلم يشعروا إلا والمسلمون على
رؤوسهم، ولم تطلع الشمس إلا وقد ولوا الأدبار، فاتبعهم أبو بكر حتى وصل ذا
القَصَّة، فترك بها النعمان بن مقرن ورجع إلى المدينة..
وحينذاك قدم أسامة بن زيد من غزوته فاستخلفه أبو بكر على المدينة وترك معه جنده
ليستريحوا، وخرج هو قاصداً ذا خشب وذا القصة..
ثم سار حتى نزل على أهل الرَّبَذَة فقاتل من هناك من المرتدين وهزمهم ثم غلب على
بلاد ذبيان وجعلها حمى لدواب المسلمين ثم رجع إلى المدينة حتى إذا استراح جيش أسامة
وثاب من حوالي المدينة خرج إلى ذي القصة فعسكر بها وعقد أحد عشر لواء لأحد عشر
قائداً..