صفحة جديدة 2
السر في تخصيص قريش بالخلافة
وإنما خص رسول الله
r
قريشاً بخلافته اعتباراً للعصبية التي تكون بها الحماية ويرتفع الخلاف والفرقة
بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم حبل الإلفة فيها ولا شك أن
قريشاً كان لهم العز والشرف على سائر مضر، يعترف لهم بذلك سائر العرب. فلو جعل
الأمر في سواهم لتُوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم فتفترق الجماعة
وتختلف الكلمة وهذا ما حذره الشرع..
أما إذا جُعِل فيهم فلا يحصل شيء من ذلك لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب
لما يُراد منهم؛ فلا يُخشى من أحد اختلاف عليهم ولا فرقة لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها
ومنع الناس منها.
قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه بعد كلام لا يخرج عما ذكرناه: «فإذا ثبت أن اشتراط
القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب وعلمنا أن الشارع لا
يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها
وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهو وجود العصبية فاشترطنا في القائم
بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على مَنْ معها لعصرها
ليستتبعوا مَنْ سواهم، وتجتمع الكلمة على حُسن الحماية ولا يُعلَم ذلك في الأقطار
والآفاق كما كان في القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة، وعصبية
العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنما يُخَصُّ لهذا لعهد كل قُطر بمَنْ
تكون له فيه العصبية الغالبة، وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعدُ هذا لأنه
سبحانه وتعالى إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على
مصالحهم وبردهم عن مضارهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه».
أقول ولا نعلم الآن عصبية كافية لحماية الأمة أقوى من عصبية القائمين بأمور
المسلمين الآن وهم بنو عثمان بالقسطنطينية وفقهم الله للعمل بدينه القويم والسير
بسيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.
شروط الخليفة
لا بد لمَنْ يتولى هذا المنصب العظيم أن يكون جامعاً لشروط أربعة:
1- العلم: لأنه منفذ لأحكام الله تعالى ومتى كان جاهلاً بها لا يمكنه تنفيذها.
2- العدالة: لأن الإمامة منصب ديني ينظر في سائر الأحكام التي تشترط فيها العدالة
فكانت أولى باشتراطها،
3- الكفاية: بأن يكون جريئاً على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيراً بها، كفيلاً
بحمل الناس عليها عالماً بأحوال الدهاء قوياً على معاندة السياسة ليصلح له بذلك ما
أُسنِد إليه من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح.
4- أن يكون سليم الحواس والأعضاء مما يؤثر فقدانه في الرأي والعمل ويلحق بذلك العجز
عن التصرف لصغر أو أسر أو غيرهما.
انتخاب الخليفة
قال الله تعالى في سورة آل عمران مخاطبا لنبيه الكريم
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل
عمران:159]
وهذا خطاب للأمة كلها فكانت الشورى بذلك أساساً للأعمال العظيمة التي يعملها
المسلمون وأجلُّها تنصيب الخليفة فلا تنعقد إلا بشورى المسلمين ورضاهم.
والمعتبر في ذلك أهل الحل والعقد منهم وهم كبار الصحابة رضوان الله عليهم الذين
امتازوا بكثرة الصحبة فاستنارت بصائرهم وعرفوا مَنْ يصلح للأمة، وهذا في العصر
الأول، ويُنزَّل منزلتهم فيما بعده من العصور مَنْ له سابقة خير في الإسلام ولا
يلزم إجماع ذوى الحل والعقد على المنتخب بل المعتبر الأغلبية وهي ما زاد على نصف
المجتمعين والحجة في ذلك عهد عمر فمتى تم الرضا على واحد بايعوه على السمع والطاعة
وعلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وبهذه البيعة تجب على المسلمين طاعته وتنفيذ
أوامره لأوافق منها كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وليست الطاعة للإمام في حياته فقط بل
وبعد وفاته فإذا عهد لأحد من المؤمنين بالخلافة انعقدت له ووجبت مبايعته فصار واجب
الطاعة وقد فعل ذلك أبو بكر لعمر رضي الله عنهما فأجازه المسلمون وإذا حصر الشورى
في عدد مخصوص من ذوي الحل والعقد أُجيز ذلك وصح انتخابهم كما فعل عمر مع عثمان رضي
الله عنهما، وهذه الكيفيات الثلاث في انتخاب الإمام وهى انتخابه بالشورى العامة أو
الخاصة التي يختارها الإمام السابق أو ولاية العهد هي الكيفيات التي عُمِل بها في
العصر الأول..
وبقيت كيفية رابعة أقر العلماء بعد العصر الأول على انعقاد الإمامة بها وهى كيفية
التغلب وتكون حينما لا يكون للمسلمين إمام واختلفوا فيما بينهم فلم يرضوا واحداً
فيجوز لمن يعرف من نفسه القدرة على سياسة الأمة بدرايته وعصبيته أن يطلب هذا الأمر
فيدخل الناس في طاعته إما طوعاً وإما كرهاً ومتى هدأت الأحوال وأجيب نداؤه صارت
خلافته معمولاً بها وصار واجب الطاعة.
طاعة الإمام
قال الله تعالى في سورة النساء:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء:59]..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمّر عليكم عبد حبشي كأن
رأسه زبيبة»، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ
أطاعني فقد أطاع الله ومَنْ عصاني فقد عصى الله، ومَنْ يطع الأمير فقد أطاعني،
ومَنْ يعص الأمير فقد عصاني»،
وقال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك
ومكرهك وأثرةٍ عليك»، والأثرة هي الاستئثار الحقوق، وقال عليه الصلاة والسلام: «لو
استُعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاستمعوا له وأطيعوا له»،
وقال أبو ذر رضي الله عنه: «أوصاني
خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الأطراف».
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره،
وعلى أثرةٍ علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كان لا
نخاف في الله لومة لائم»،
وفي رواية:
«بايعنا
على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرةٍ علينا ولا ننازع الأمر
أهله إلا إن تروا كفراً بواحاً»،
والبواح الظاهر المكشوف الذي لا تأويل فيه.
مخالفة الإمام
وهذه الطاعة محدودة بما حدّه الشرع، فإذا أمر بما ينطبق على قواعد الدين ولا يخالف
صريح القرآن ولا السُّنة الظاهرة المكشوفة فأمره مطاع واجب التنفيذ، وكذلك إذا كان
باجتهاد من عنده استند فيه لكتاب أو سُنة، أما إذا أمر بما خالف صريح القرآن أو
السُّنة فلا طاعة له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق»،
وقال عليه الصلاة والسلام: «فإذا
أُمِرتَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة»
كما إذا أمر بشرب خمر أو ترك صلاة مثلاً فيجب على المرء المسلم أن لا ينفذ أمره بل
ينفذ أمر الله لا يخاف فيه لومة لائم..