صفحة جديدة 2
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد-عليه الصلاة والسلام- الذي أوضح
السبل، وبلّغ الرسالة كما حُمِّل؛ والرضاء عن أصحابه الكرام البررة الذين اتبعوا
نهجه القويم فدانت لهم الملوك وذلت لهيبتهم الأمم.
(أما بعد): فيقول المرحوم محمد الخضري بن المرحوم الشيخ عفيفي الباجورى سألتني
وفقني الله وإياك أن أُردف لك كتابي في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي سميته
«نور اليقين» بكتاب فيه تاريخ خلفائه الراشدين-رضي الله عنهم-؛ إذ هم الذين ظهر
الدين الإسلامي بأسمى مظاهره في أيامهم وتجلى في أجمل حليته بأقوالهم وأفعالهم
طالباً مني أن أنهج على سَنن الكتاب الأول في سهولة التعبير، والاجتهاد في جمْع ما
تشتت من تاريخ هؤلاء السادة في مطولات الكتب التي يمل القارئ منها ذاكراً أن من
أعظم ما يبث في الأمة روح النشاط والاجتهاد أن تعكف على دراسة تاريخ كبارها حتى
تعرف كيف تغلّبوا على المصاعب الجمّة التي كادت تحول بينهم وبين أمانيهم العظيمة،
وتعرف النتيجة التي تعود من اتباع الدين والسير على نظاماته، فعلمتُ حُسْن قصدك،
وصحة إيمانك، وغيرتك على أمتك، ورأيت أن أساعدك على مقصدك وأتغلب على المصاعب التي
تحول بيني وبين هذا العمل الجسيم مستعيناً بالله سبحانه وتعالى وهو نِعْم العون،
وقد جعلتُ الكتاب قسمين: (القسم الأول) في عصر إتحاد الكلمة وفيه الفتوحات
الإسلامية في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، وزمن غير قليل من زمن عثمان ابن عفان رضي
الله عنهم أجمعين.
وأتبعتُ هذا القسم بنبذة في نظامات الأمة الإسلامية إذ ذاك، وسِيَر المسلمين مع
بعضهم من حُسْن الإخاء والسعي وراء تتميم ما أنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم
من تعميم الدين الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها.
و(القسم الثاني) في عصر الاختلاف والفتن وهو من أواخر مدة عثمان رضي الله عنه إلى
أن قُتِل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسلَّم ابنه الحسن الخلافة إلى معاوية رضي
الله عنهم أجمعين..
وأتبعتُه بنبذة تُظهر للمسلمين نتائج الاختلاف والفُرقة ليكون الكتاب بعون الله
درساً مفيداً لعامة المسلمين..
(وقدمتُ) أمام القسمين مقدمة صغيرة في الخلافة وما يتعلق بها ولعل كتابي هذا يحل
عند إخواني المسلمين محل القبول فيُقبلون عليه كما أقبلوا على سابقة وإني بحمد الله
واثق بحُسن مسعاي لأني قصدتُ به وجه الله سبحانه أسأل به حُسن الذخر في الأخرى
وتوفيقاً للمسلمين حتى تقوى شوكتهم ويُنزِل الله النصر عليهم.
وهذه هي الكتب التي استقيتُ منها في
جمْع كتابي هذا:
(1) صحيح أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجُعفي في كثير من المواضع التي
عُني فيها بأخبار الصحابة رضي الله عنهم.
(2) صحيح أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري كذلك
(3) تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري إلا ما كان من أمر صفين
فإني لم أعثر على الجزء الذي يحتوي عليها.
(4) تاريخ أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد المعروف بابن الأثير الجزري.
(5) تاريخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي
(6) تاريخ علي ابن الحسين المسعودي من ولد عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ﷺ
(7) إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي
(8) سراج الملوك لأبي بكر محمد بن محمد الفهري الطرطوشي..
وقد التزمتُ أن أنص لك على موضع النقل عندما أرى ذلك لازماً لما رأيت من حرصك على
ذلك والله الموفق.
المقدمة في الخلافة
معنى الخلافة
أرسل الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بدين قويم وصراط مستقيم: مَنْ اتّبعه
نجا، ومَنْ حاد عنه هلك.
وقد اشتمل هذا الدين على قوانين بها صلاح المجتمع الإنساني في الدنيا والأخرى،
فبلّغ عليه الصلاة والسلام الرسالة كما حُمِّل ثم لحق بربه راضياً مرضياً فكان لا
بد للناس من إمام يخلفه في حمْل الكافة على اتباع هذا الدين ليقف كل إنسان عند حده
فيتساوى القوي والضعيف، والشريف والوضيع أمام الحق فهو خليفة رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وجوب إقامة الخليفة
وقد أجمعت الأمة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب إقامة
هذا الخليفة وتابعهم على ذلك مَنْ بعدهم من المسلمين.
ولم يشذ عن هذا الإجماع أحد، اللهم إلا بعضاً من الخوارج والأصم من المعتزلة قالوا
بالاستغناء عنه إذا صلحت الأمة بأن اتبعت الدين القويم فعملت بالكتاب والسُّنة،
والذي حملهم على ذلك إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب
والاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك والنعي على أهله ومُرَغِّبة في
رفضه.
عدم تعدد الإمام
وكذلك أجمع المسلمون على أنه لا يصح أن يكون لهم في عصر واحد خليفتان لما يجره ذلك
من التنافس والتباغض اللذين هما سبب الخسران والوبال وكفى بما حصل للمسلمين منذ
تفرقت كلمتهم وتعدد سلطانهم مانعاً من ذلك فإن عدوهم تمكن من أن يتصنع لأحدهم
ليستعين به على الآخر فكان ملوك الروم يتقربون من ملوك الأندلس ليكونوا لهم ردءاً
مانعاً من تعدّى العباسيين عليهم وصارت الحال تتقهقر من سيء إلى أسوأ حتى زمننا
الذي نجتهد فيه للتقرب ممن يتمنون لنا الفناء والزوال ولو عرف ملوك الإسلام مصلحتهم
وأزالوا الكبرياء من نفوسهم فتمسكوا بالدين ما وصلوا إلى هذا الدرك الأسفل (إن في
ذلك لعبرة لأولى الألباب).
صاحب الخلافة
منصب عظيم كمنصب الخلافة لا يُستغرب تشعب الأفكار فيه واختلاف الأمة في الأحق به؛
فقد مضت القرون والأحقاب وهذه المسألة شاغلة أفكار العلماء من أكابر المسلمين وأول
خلاف ظهر فيها كان عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الأصحاب كانوا
في ذلك على ثلاثة مذاهب؛
1- (قوم) قالوا إنها ترجع لرأي الأمة تختار مَنْ تشاء ليكون إماماً لها متى رأوا
فيه القدرة على حراسة الدين وسياسة الدنيا، لا فرق في ذلك بين القرشي وغيره وكان
هذا رأي أغلب الأنصار من سكان المدينة رضوان الله عليهم، ولذلك طلبوها لأنفسهم
وأرادوا أن يبايعوا سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الخزرج. وأخذ برأيهم من بعدهم
عامة المعتزلة وأكثر الخوارج والحجة في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «اسمعوا
وأطيعوا وإن وُلِّى عليكم عبد حبشي ذو زبيبة»..
2- و(قوم) قالوا هي باختيار الأمة أيضاً ولكن لا تكون إلا في قريش وكان هذا رأي
أغلب المهاجرين رضوان الله عليهم. وأخذ برأيهم من بعدهم عامة أهل السنة، والحجة في
ذلك ما رواه أبو بكر ﭬ من قوله عليه الصلاة والسلام: «الأئمة من قريش»..
3- و(قوم) رأوا أن الأولى بها قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقدم فيهم علي
بن أبى طالب رضي الله عنه لسابقته بالإسلام، وحُسن بلائه فيه وقوله عليه الصلاة
والسلام له حينما خلّفه على أهله في غزوة تبوك: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون
من موسي إلا أنه لا نبوة بعدي» وكان هذا رأي أغلب بني هاشم ومَنْ شايعهم.
وأخذ برأيهم من بعدهم عامة الشيعة والدليل على أن ذلك كان رأياً لعلي قوله لأبي بكر
في حديث مسلم الآتي «وكنا نحن نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليهم
وسلم».. فلم يكن رضي الله عنه يرى لنفسه مُرجحاً سوى هذه القرابة ولو كان هناك
وصاية له أو لغيره لما خفيت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وقد تغلب الرأي الأوسط على ما سواه عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن
ظهر لهذا الاختلاف في مستقبل الأمة آثار لا تُحمد من الشقاق العظيم والمصائب التي
توالت على الأمة حتى
فرقت كلمتها وأضعفت أمرها، ولو رُوعي السر الذي من أجله
خصصت قريش بالخلافة لما كان هناك خلاف ولا فرقة.