صفحة جديدة 1
والخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ، وَخِلَافُهُمْ فِي
الأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ. وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ
عَنْهُمْ مِنَ الخِلَافِ يَرْجِعُ إِلَى «اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ» لَا«اخْتِلَافِ
تَضَادٍّ»؛ وَذَلِكَ صِنْفَانِ؛
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ المُرَادِ بِعِبَارَةٍ
غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ، تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي المُسَمَّى غَيْرِ
المَعْنَى الآخَرِ، مَعَ اتِّحَادِ المُسَمَّى، بِمَنْزِلَةِ الأَسْمَاءِ
المُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ المُتَرَادِفَةِ وَالمُتَبَايِنَةِ، كَمَا قِيلَ
فِي اسْمِ السَّيْفِ: «الصَّارِمُ» وَ«المُهَنَّدُ». وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ
اللهِ الحُسْنَى، وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَسْمَاءِ
القُرْآنِ؛ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ،
فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى مُضَادّاً لِدُعَائِهِ
بِاسْمٍ آخَرَ؛ بَلْ الأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوْ ادْعُواْ
الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾
[الإسراء: 110]، وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ
المُسَمَّاةِ وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الاسْمُ؛ كَـ: «الْعَلِيمِ»،
يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْعِلْمِ، وَ«الْقَدِيرِ»، يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ
وَالقُدْرَةِ، وَ«الرَّحِيمِ» يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالرَّحْمَةِ.
وَمَنْ أَنْكَرَ دِلَالَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي
الظَّاهِرَ، فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غُلَاةِ البَاطِنِيَّةِ
«الْقَرَامِطَةِ» الَّذِينَ يَقُولُونَ: ( لَا يُقَالُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ
بِحَيٍّ)؛ بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ «القَرَامِطَةَ
البَاطِنِيَّةَ» لَا يُنْكِرُونَ اسْماً هُوَ عَلَمٌ مَحْضٌ كَالمُضْمَرَاتِ،
وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا فِي أَسْمَائِهِ الحُسْنَى مِنْ صِفَاتِ الإِثْبَاتِ،
فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كَانَ مَعَ دَعْوَاهُ الغُلُوَّ فِي
الظَّاهِرِ مُوَافِقاً لِغُلَاةِ البَاطِنِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا
مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا المَقْصُودُ: أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ
وَعَلَى مَا فِي الاسْمِ من صفاته، وَيَدُلُّ أَيْضاً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي في
الاسْمِ الآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.
وَكَذِلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، مِثْلُ: «مُحَمَّدٍ»،
وَ«أَحْمَدَ»، وَ«المَاحِي»، وَ«الحَاشِرِ»، وَ«العَاقِبِ».
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ القُرْآنِ؛ مِثْلُ: «القُرْآنِ»، وَ«الفُرْقَانِ»،
وَ«الهُدَى»، وَ«الشِّفَاءِ»، وَ«البَيَانِ»، وَ«الكِتَابِ»، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيينَ المُسَمَّى عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ
اسْمٍ كَانَ إِذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الاسْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الاسْمُ عَلَماً، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً؛ كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ
قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾
[طه: 124] مَا ذِكْرُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ «القُرْآنُ»، مَثَلاً، أَوْ: مَا
أَنْزَلَهُ مِنَ الكُتُبِ؛ فَإِنَّ «الذِّكْرَ» مَصْدَرٌ، وَالمَصْدَرُ تَارَةً
يُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ، وَتَارَةً إِلَى المَفْعُولِ.
فَإِذَا قِيلَ: ذِكْرُ اللهِ، بِالمَعْنَى الثَّانِي، كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ؛
مِثْلُ قَوْلِ العَبْدِ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ».
وَإِذَا قِيلَ بِالمَعْنَى الأَوَّلِ، كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ، وَهُوَ
كَلَامُهُ، وَهَذَا هُوَ المُرَادُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾
[طه: 124]؛ لأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا
يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾
[طه: 123]. وَهُدَاهُ: هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ الذِّكْرِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
﴿قَالَ رَبِّ لَمْ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾
[طه: 125، 126].
وَالمَقْصُودُ: أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلَامُهُ المُنَزَّلُ، أَوْ
هُوَ ذِكْرُ العَبْدِ لَهُ؛ فَسَوَاءٌ قِيلَ: ذِكْرِي: كِتَابِي، أَوْ كَلَامِي،
أَوْ هُدَايَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ المُسَمَّى وَاحِدٌ.
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الاسْمِ مِنَ الصِّفَةِ
المُخْتَصَّةِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ المُسَمَّى؛
مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ: ﴿الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ﴾
[الحشر: 23]. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللهُ، لَكِنْ مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوساً
سَلَاماً، مُؤْمِناً؟ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
إِذَا عُرِفَ هَذا، فَالسَّلَفُ كَثِيراً مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ المُسَمَّى
بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الصِّفَةِ مَا
لَيْسَ فِي الاسْمِ الآخِرِ؛ كَمَنْ يَقُولُ: أَحْمَدُ هُوَ: الحَاشِرُ،
وَالمَاحِي، وَالعَاقِبُ. وَالقُدُّوسُ: هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، أَيْ أَنَّ
المُسَمَّى وَاحِدٌ، لَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ!
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلَافَ تَضَاٍّد كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ
النَّاسِ؛ مِثَالُ ذَلِكَ: تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هُوَ: «القُرْآنُ»، أَي اتِّبَاعُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم، -فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، ورَوَاهُ أَبُو
نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ- «هُوَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وَالذِّكْرُ
الحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ»، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ
الإِسْلَامُ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ
سَمْعَانَ - الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ-: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً:
صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَعَلَى جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ، وَفِي السُّوَريْنِ
أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو
مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ..
قَالَ: فَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ هُوَ الإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ،
وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ، وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ
الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي
قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ».
فَهَذَانِ القَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ؛ لأَنَّ دِينَ الإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ
«القُرْآنِ»، وَلَكِنْ كُلاً مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الوَصْفِ
الآخَرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ: «صِرَاطٌ» يُشْعِرُ بِوَصْفٍ ثَالِثٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «السُّنَّةُ وَالجَمَاعَةُ»، وَقَوْلُ مَنْ
قَالَ: هُوَ: «طَرِيقُ العُبُودِيَّةِ»، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ: «طَاعَةُ اللهِ
وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم»، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إِلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ
مِنْهُمْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا.