صفحة جديدة 2
الصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنَ الاسْمِ العَامِّ بَعْضَ
أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ المُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ،
لَا عَلَى سَبِيلِ الحَدِّ المُطَابِقِ للمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ.
مِثْلُ سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ «الخُبْزِ» فَأُرِيَ
رَغِيفاً، وَقِيلَ لَهُ: هَذَا؛ فَالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ هَذَا، لَا إِلَى هَذَا
الرَّغِيفِ وَحْدَهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ: مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ﴾
[فاطر: 32]؛
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ المُضَيِّعَ لِلوَاجِبَاتِ،
وَالمُنْتَهِكَ لِلحُرُمَاتِ.
وَالمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الوَاجِبَاتِ، وَتَارِكَ المُحَرَّمَاتِ.
وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالحَسَنَاتِ مَعَ
الوَاجِبَاتِ.
فَالمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ، ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾
[الواقعة: 10-11].
ثُمَّ إِنَّ كُلّاً مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ
الطَّاعَاتِ؛ كَقَوْلِ القَائِلِ: «السَّابِقُ»: الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ
الوَقْتِ، وَ«المُقْتَصِدُ»: الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ، وَ«الظَّالِمُ
لِنَفْسِهِ»: الَّذِي يُؤَخِّرُ العَصْرَ إِلَى الاصْفِرَارِ.
أَوْ يَقُولُ: السَّابِقُ وَالمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ
«سُورَةِ البَقَرَةِ»؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ المُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ، وَالظَّالِمَ
بِأَكْلِ الرِّبَا، وَالعَادِلَ بِالبَيْعِ.
وَالنَّاسُ فِي الأَمْوَالِ، إِمَّا مُحْسِنٌ، وَإِمَّا عَادِلٌ، وَإِمَّا
ظَالِمٌ؛ «فَالسَّابِقُ»: المُحْسِنُ بِأَدَاءِ المُسْتَحَبَّاتِ مَعَ
الوَاجِبَاتِ، وَ«الظَّالِمُ»: آكِلُ الرِّبَا،َ ْأو مَانِعُ الزَّكَاةِ،
وَ«المُقْتَصِدُ»: الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ وَلَا يَأْكُلُ
الرِّبَا. وَأَمْثَالَ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ.
فَكُلُّ قَوْلٍ: فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٌ فِي الآيَةِ، [وَإِنَّمَا] ذُكِرَ
لِتَعْرِيفِ المُسْتَمِعِ بِتَنَاوُلِ الآيَةِ لَهُ، وَتَنْبِيهِهِ به عَلَى
نَظِيرِهِ؛ فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالمِثَالِ قَدْ يُسَهِّلُ أَكْثَرَ مِنَ
التَّعْرِيفِ بِالحَدِّ المُطَابِقِ.
وَالعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إِذَا أُشِيرَ
لَهُ إِلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الخُبْزُ.
وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيراً مِنْ هَذَا البَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ
فِي كَذَا؛ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ المَذْكُورُ شَخْصاً، كَأَسْبَابِ النُّزُولِ
المَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ؛ كَقَوْلِهِمْ:
إِنَّ «آيَةَ الظِّهَارِ» نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بنِ الصَّامِتِ.
وَإِنَّ «آيَةَ اللِّعَانِ» نَزَلَتْ فِي عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ، أَوْ هِلَالِ
بنِ أُمَيَّةَ.
وَإِنَّ «آيَةَ الكَلَالَةِ» نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
وَإِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾
[المائدة: 49] نَزَلَتْ فِي: «بَنِي قُرَيْظَةَ» وَ«النَّضِيرِ».
وَإِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَن
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾
[الأنفال: 16] نَزَلَتْ فِي «بَدْرٍ».
وَإِنَّ قَوْلُهُ: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ﴾
[المائدة: 106] نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ
بَداءٍ.
وَقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ: (إِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
[البقرة: 195] نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ الحَدِيثُ).
وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمِ مِنَ
المُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْل الكِتَابِ؛ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
فَالَّذِينَ قَالُوا لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ
الأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا
عَاقِلٌ على الإِطْلَاقِ.
وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَفْظِ العَامِّ الوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ، هَلْ
يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أم لا؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ
إِنَّ عُمُومَاتِ «الكِتَابِ» وَ«السُّنَّةِ» تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ المُعَيَّنِ،
وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ: إِنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ،
فَتَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ العُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ.