صفحة جديدة 13
باب في أحكام التعزير
التعزير لغة: المنع، ويطلق
التعزير ويراد به النصرة؛ لأنه يمنع المعادي من الإيذاء، قال تعالى:
﴿وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ﴾ يعني: النبي صلى الله
عليه وسلم ويقال عزرته بمعنى وقرته، ويقال عزرته بمعنى أدبته. فهو من الأضداد.
ومعنى التعزير في الاصطلاح
الفقهي التأديب، سمى بذلك لأنه يمنع مما لا يجوز فعله، ولأنه طريق إلى التوقير؛ لأن
المعزر إذا امتنع بسببه من فعل ما لا ينبغي؛ حصل له الوقار
. وحكم التعزير في الإسلام أنه واجب في فعل كل معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ من فعل
المحرمات، وترك الواجبات، ويفعله ولي الأمر إذا رأى المصلحة فيه، ويتركه إذا رأى
المصلحة في تركه، ولا يحتاج في إقامة التعزير إلى مطالبة، فيعزر المعتدي ولو لم
يطالب المعتدي عليه، ومرجعه إلى اجتهاد الحاكم؛ حيث كانت الجرائم تتفاوت في الشدة
والضعف والكثرة والقلة.
والصحيح أنه ليس فيه حد معين،
لكن إذا كانت المعصية في عقوبتها مقدر من الشارع كالزنى والسرقة؛ فلا يبلغ بالتعزير
الحد المقدر.
وقد يصل التعزير إلى القتل إذا
اقتضته المصلحة، مثل قتل الجاسوس، وقتل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى غير
كتاب الله وسنة ونبيه... وغير ذلك مما لا يندفع إلا بالقتل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: وهذا أعدل الأقوال، وعليه دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة
الخلفاء الراشدين، فقد أمر بضرب الذي أحلت له امرأته جاريتها مائة، وأبو بكر وعمر
أمرا بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة، وضرب عمر صبيغا ضربا كثيرا.
وقال الشيخ: إذا كان المقصود
دفع الفساد، ولم يندفع إلا بالقتل، قتل، وحينئذ؛ فمن تكرر منه جنس الفساد، ولم
يرتدع بالحدود المقدرة، بل استمر على الفساد، فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا
بالقتل، فيقتل.
ولا حد لأقل التعزير؛ لتفاوت
الجرائم بالشدة والضعف واختلاف الأحوال والأزمان، فجعلت العقوبات على بعض الجرائم
راجعة إلى اجتهاد الحاكم بحسب الحاجة والمصلحة، ولا تخرج عما أمر الله به ونهى عنه،
وكما يكون التعزير بالضرب يكون بالحبس والصفع والتوبيخ والعزل عن الولاية ونحو
ذلك...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: وقد يكون التعزير بالنيل من عرضه. كيا ظالم! يا معتدي! وبإقامته من المجلس..
والذين أجازوا الزيادة في التعزير على عشرة أسواط أجابوا عن قوله صلى الله عليه
وسلم:
«لا
يجلد أحد فوق عشرة أسواط؛ إلا في حد من حدود الله» متفق عليه، بأن المراد بالحد هنا المعصية، لا العقوبات المقدرة في
الشرع، بل المراد المحرمات، وحدود الله محارمه، فيعزر بحسب المصلحة وعلى قدر
الجريمة.
ولا يجوز أن يكون التعزير بقطع
عضو أو بجرح المعزر أو حلق لحيته، لما في ذلك من المثلة والتشويه؛ كما لا يجوز أن
يعزر بحرام؛ كسقيه خمرا.
ومن عرف بأذية الناس وأذى مالهم
بعينه؛ حبس حتى يموت أو يتوب.
قال الإمام ابن القيم رحمه
الله: يحبس وجوبا، ذكره غير واحد من الفقهاء، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف؛ لأنه من
نصيحة المسلمين وكف الأذى عنهم.
وقال: العمل في السلطنة
بالسياسة هو الحزم، فلا يخلو منه إمام، ما لم يخالف الشرع، فإذا ظهرت أمارات العدل،
وتبين وجهه بأي طريق، فثم شرع الله؛ فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق
به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا
لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق، فقد حبس صلى الله عليه وسلم في التهمة، وعاقب في التهمة
لما ظهرت آثار الريبة، فمن أطلق كلا منهم وخلى سبيله، لو حلفه مع علمه باشتهاره
بالفساد في الأرض. فقوله مخالف للسياسة الشرعية، بل يعاقبون أهل التهم، ولا يقبلون
الدعوى التي تكذبها العادة والعرف.
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله
في أهل الشعوذة: يعزر الذي يمسك الحية ويدخل النار ونحوه.
ويعزر من ينتقص مسلما بأنه
مسلماني، ومن قال لذمي: يا حاج! أو سمى من زار القبور والمشاهد حاجا... ونحو ذلك.
وإذا ظهر كذب المدعي بما يؤذي
به المدعى عليه؛ عزر، ويلزمه ما غرم بسببه ظلما؛ لتسببه في ظلمه بغير حق.
باب في حد السرقة
قال تعالى:
﴿وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«تقطع
اليد في ربع دينار فصاعدا»
وأجمع المسلمون على وجوب قطع يد
السارق في الجملة.
والسارق عنصر فاسد في المجتمع،
إذا ترك، سرى فساده في جسم الأمة؛ فلا بد من حسمه بتطبيق الحد المناسب لردعه، ومن
ثم شرع الله سبحانه وتعالى قطع يده، تلك اليد الظالمة التي امتدت إلى ما لا يجوز
لها الامتداد إليه، تلك اليد التي تهدم ولا تبني، تأخذ ولا تعطي.
والسرقة هي: أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه، إذا كان هذا الآخذ
ملتزما لأحكام الإسلام، وكان المال المأخوذ بلغ النصاب، وقد أخذه من حرز مثله، وكان
مالك المال المأخوذ معصوما، ولا شبهة للآخذ منه.
فلا بد أن يستجمع السارق
والمسروق منه والمال المسروق وكيفية السرقة أوصافا محددة تضمنها هذا التعريف، متى
اختل وصف منها، انتفى القطع،
وهذه الأوصاف هي:
أن يكون الأخذ على وجه الخفية،
فإن لم يكن على وجه الخفية؛ فلا قطع؛ كما لو انتهب المال على وجه الغلبة والقهر على
مرأى من الناس، أو اغتصبه؛ لأن صاحب المال حينئذ يمكنه طلب النجدة والأخذ على يد
الغاشم والغاصب.
قال الإمام ابن القيم: إنما
قطع السارق دون المنتهب والمغتصب لأنه لا يمكن التحرز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك
الحرز ويكسر القفل، فلو لم يشرع قطعه؛ لسرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت
المحنة انتهى.
وقال صاحب الإفصاح: اتفقوا على
أن المختلس والمنتهب والغاصب على عظم جنايتهم وآثامهم لا قطع على واحد منهم، ويسوغ
كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة الرادعة.
ومن الأوصاف التي توجب القطع في
السرقة أن يكون المسروق مالا محترما؛ لأن ما ليس بمال لا حرمة له؛ كآلة اللهو
والخمر والخنزير والميتة، وما كان مالا، لكنه غير محترم، لكون مالكه كافرا حربيا،
فلا قطع فيه؛ لأن الكافر الحربي حلال الدم والمال.
ومن الأوصاف التي يجب توافرها
في القطع في السرقة: أن يكون المسروق نصابا، وهو ثلاثة دراهم إسلامية، أو ربع دينار
إسلامي، أو ما يقابل أحدهما من النقود الأخرى، أو أقيام العروض المسروقة في كل زمان
بحسبه، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«لا
تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا» رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم.
وفي تخصيص القطع بهذا القدر
حكمة ظاهرة، فإن هذا القدر يكفي المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبا؛ فانظر كيف
تقطع اليد في سرقة ربع دينار مع أن ديتها لو جنى عليها خمس مائة دينار، لأنها لما
كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت، ولهذا لما اعترض بعض الملاحدة - وهو المعري
- بقوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
أجابه بعض العلماء بقوله:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها
ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
ومن الأوصاف التي يجب توافرها
للقطع في السرقة: أن يأخذ المسروق من حرز؛ وحرز المال ما العادة حفظه فيه؛ لأن
الحرز معناه الحفظ، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره
وقوته وضعفه؛ فالأموال الثمينة حرزها في الدور والدكاكين والأبنية الحصينة وراء
الأبواب والأغلاق الوثيقة، وما دون ذلك حرزه بحسبه على عادة البلد، فإن سرقه من غير
حرز، كما لو وجد بابا مفتوحا، أو حرزا مهتوكا، فأخذ منه؛ فلا قطع عليه.
ولا بد أن تنتفي الشبهة عن
السارق فيما أخذ، فإن كان له شبهة يظنها تسوغ له الأخذ؛ لم يقطع، لقوله صلى الله
عليه وسلم:
«ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» فلا قطع عليه بسرقته من مال أبيه ولا بسرقته من مال ولده؛ لأن نفقة
كل منهما تجب في مال الآخر، وذلك شبهة تدرأ عنه الحد، وهكذا كل من له استحقاق في
مال، فأخذ منه؛ فلا قطع عليه، لكن يحرم عليه هذا الفعل، ويؤدب عليه، ويرد ما أخذ.
ولا بد مع توافر ما سبق من
الصفات من ثبوت السرقة إما بشهادة عدلين يصفان كيفية السرقة وحرزها وقدر المسروق
وجنسه؛ لتزول الاحتمالات والشبهات، وإما بإقرار السارق مرتين على نفسه بالسرقة؛ لما
روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف، فقال له:
«ما
إخالك سرقت قال: بلى. فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به، فقطع»
ولا بد في إقراره أن يصف
السرقة، ليندفع احتمال أنه يظن القطع فيما لا قطع فيه، وليعلم توافر شروط أو عدم
توافرها.
ولا بد أن يطالب المسروق منه بماله، فلو لم يطالب لم يجب القطع لأن المال يباح
بإباحة صاحبه وبذله له، فإذا لم يطالب؛ احتمل أنه سمح به له، وذلك شبهة تدرأ الحد.
وإذا وجب القطع لتكامل شروطه؛
قطعت يده اليمنى لقراءة ابن مسعود في قوله تعالى فاقطعوا أيمانهما ومحل القطع من
مفصل الكف لأن اليد آلة السرقة فعوقب بإعدام آلتها واقتصر القطع على الكف؛ لأن اليد
إذا أطلقت انصرفت إليه وبعد قطعها يعمل لها ما يحسم الدم ويندمل به الجرح من أنواع
العلاج المناسبة في كل زمان بحسبه.