صفحة جديدة 14
باب في حد قطاع الطريق
الله سبحانه يريد للمسلمين أن
يسيروا في أرضه آمنين؛ لتبادل مصالحهم، وتنمية أموالهم، وصلة الرحم فيما بينهم،
وتعاونهم على البر والتقوى، ولا سيما السفر إلى بيته العتيق؛ لأداء شعيرة الحج
والعمرة.
فمن أراد أن يعوق سيرهم، أو يسد
طريقهم، أو يخوفهم في أسفارهم. فقد شرع له حدا رادعا، يزيل هذا العائق، ويميط الأذى
عن الطريق، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
والمراد بالمحاربين الذين يسعون
في الأرض فسادا: قطاع الطريق وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء أو البنيان،
فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة.
ويشترط لتطبيق الحد عليهم أن
يبلغ ما أخذوه نصاب السرقة، وأن يأخذوه من حرز، بأن يأخذوا المال من يد صاحبه وهو
في القافلة، وأن يثبت قطعهم للطريق بإقرارهم أو بشهادة عدلين.
وحدهم يختلف باختلاف جرائمهم:
فمن قتل منهم وأخذ المال؛ قتل
حتما وصلب حتى يشتهر أمره، ولا يجوز العفو عنه بإجماع العلماء. كما حكاه ابن
المنذر.
ومن قتل ولم يأخذ المال؛ قتل حتما ولم يصلب.
ومن أخذ المال، ولم يقتل. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد، وحسمت عن
النزيف، ثم خلي.
ومن أخاف السبيل فقط، ولم يقتل، ولم يأخذ مالا؛ نفي من الأرض؛ بأن يشرد؛ فلا يترك
يأوي إلى بلد، بل يطارد.
فتختلف عقوبتهم باختلاف
جرائمهم، لقوله تعالى:
﴿إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ فهذه الآية نزلت في قطاع الطريق عند أكثر السلف، وهي الأصل في
حكمهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
«إذا قتلوا وأخذوا المال؛ قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال؛
قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، واذا
أخافوا السبيل ولم يأخذوا - مالا؛ نفوا من الأرض» رواه الشافعي.
ولو قتل بعضهم؛ ثبت حكم القتل
عليهم جميعا، وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم. قتلوا جميعا وصلبوا.
ومن تاب منهم قبل القدرة عليه،
سقط عنه ما كان واجبا لله تعالى من نفي عن البلد وقطع يد ورجل وتحتم قتل، وأخذ بما
للآدميين من الحقوق من نفس وطرف ومال؛ إلا أن يعفى له عنها من مستحقيها؛ لقوله
تعالى:
﴿إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: اتفقوا على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر، ثم تابوا.
بعد ذلك؛ لم يسقط الحد عنهم؛ بل تجب إقامته، وإن تابوا، وإن كانوا صادقين في
التوية.
فاستثناء التوبة قبل القدرة
عليهم فقط. فالتائب بعد القدرة عليه باق فيهن وجب عليه الحد؛ للعموم والمفهوم
والتفصيل، ولئلا يتخذ ذريعة إلى تعطيل حدود الله؛ إذ لا يعجز من وجب عليه الحد أن
يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة.
ومن صال على نفسه من يريد
قتله أو صال على حرمته كأمه وبنته وأخته وزوجته من يريد هتك أعراضهن، أو صال على
ماله من يريد أخذه أو إتلافه؛ فله الدفع عن ذلك، سواء كان الصائل آدميا أو بهيمة،
فيدفعه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه؛ لأنه لو منع من الدفع؛ لأدى ذلك إلى تلفه وأذاه
في نفسه وحرمته وماله، ولأنه لو لم يجز ذلك؛ لتسلط الناس بعضهم على بعض، وإن لم
يندفع الصائل إلا بالقتل، فله قتله، ولا ضمان عليه؛ لأنه قتله لدفع شره، وإن قتل
المصول عليه؛ فهو شهيدة لقوله عليه الصلاة والسلام:
«من
أريد ماله بغير حق، فقاتل، فقتل؛ فهو شهيد» وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: جاء رجل، فقال:
يا رسول الله
«أرأيت
إن جاء رجل يريد أخذ مالي؛ قال: فلا تعطه. قال: أرأيت إن قاتلني؛ قال: قاتله. قال:
أرأيت إن قتلني؛ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؛ قال: هو في النار»
وهذا الدفع عن نفسه وعن حرمته
يجب عليه إذا لم يؤد إلى الفتنة؛ لقوله تعالى:
﴿وَلَا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
ويلزمه الدفع عن نفس غيره وعن حرمة غيره؛ لقوله:
«انصر أخاك ظالما أو مظلما» ومعنى نصرته إذا كان ظالما
منعه من الظلم.
وإذا دخل لص في منزل إنسان؛
فحكمه حكم الصائل؛ بأن يدفعه بالأسهل فالأسهل.
ومن نظر في بيت رجل من خصاص باب
أو نافذة أو من فوق سطح؛ فله دفعه ومنعه من ذلك، ولو أصاب عينه ففقأها؛ فهي هدر،
وكذا لو طعنه بعود، فأتلف عينه؛ فهي هدر لحديث:
«من
اطلع في بيت، ففقئت عينه؛ فلا دية ولا قصاص»
وهذا لحرمة المسلم وحرمة ماله وعرضه وكرامته عند الله.
وهذا هو عدل الإسلام، وحفاظه
على سلامة المجتمع، وانتظام مصالحه؛ لتعمر البلاد، ويأمن العباد، وتنتظم المواصلات
بين الأقطار، فيسير الناس فيها ليالي وأياما آمنين.
ولا صلاح للبشرية إلا بتطبيق
هذا التشريع الحكيم. فقد عجزت أنظمة الأرض كلها وقواها المادية أن تحقق للناس شيئا
من الأمن المنشود بدون تطبيق هذه الشريعة، وصدق الله العظيم:
﴿أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ﴾.