صفحة جديدة 12
وكما يجب الحد بالزنى إذا توفرت
شروط إقامته، كذلك يجب الحد باللواط وهو فعل الفاحشة في الدبر، وهو جريمة خبيثة،
وشذوذ قبيح مخالف للفطرة السليمة.
قال الله تعالى في قوم لوط:
﴿أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ﴾ وتحريمه معلوم بالكتاب والسنة
والإجماع.
وقد وصف الله اللوطية بأنهم
يمارسون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد في العالمين؛ فهم شذاذ في العالم، ووصفتم بأنهم
عادون ومسرفون ومجرمون، وأحل بهم عقوبة لم ينزلها بغيرهم، لقبح جريمتهم؛ حيث خسف
بهم الأرض، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
وقد لعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم الفاعل والمفعول به
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله: الصحيح الذي عليه الصحابة أنه يقتل الاثنان: الأعلى والأسفل، إن كانا
محصنين أو غير محصنين. قال: ولم يختلف الصحابة في قتله، وبعضهم يرى أنه يرفع على
أعلى جدار في القرية، ويلقى، ويتبع بالحجارة.
وقال الموفق: ولأنه (أي: قتل اللوطي) إجماع الصحابة؛ فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما
اختلفوا في صفتها.
وقال ابن رجب: الصحيح قتله،
سواء كان محصنا أو غير محصن؛ لقوله تعالى:
﴿وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ وعن أحمد: حده الرجم، بكرا كان أو ثيبا، وهو قول مالك وغيره، وأحد
قولي الشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«من
وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أبو داود، وفي رواية:
«فارجموا الأعلى والأسفل»
ومن اللوطية إتيان الرجل زوجته
في دبرها؛ قال الله تعالى:
﴿فأتوهن
من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾ قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني: الفرج. قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس:
﴿فَأْتُوهُنَّ
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾
يقول: في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئا من ذلك؛ فقد اعتدى.
ومثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة
رادعة، فإن استمر على فعل هذه الجريمة؛ وجب على زوجته طلب مفارقته والابتعاد عنه؛
لأنه نذل سافل، لا يصلح لها البقاء معه على هذه الحال.
باب في حد القذف
عرف الفقهاء رحمهم الله القذف بأنه الرمي بزنى أو لواط، وهو في الأصل الرمي بقوة،
ثم استعمل في الرمي بالزنى واللواط.
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
هذه عقوبة القاذف العاجلة في الدنيا: الجلد، ورد شهادته، واعتباره فاسقا ناقصا
سافلا إذا لم يثبت ما قال، وأما عقوبته في الآخرة؛ فقد بينها الله تعالى بقوله:
﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«اجتنبوا
السبع الموبقات» وعد منها قذف المحصنات
الغافلات المؤمنات.
وقد أجمع المسلمون على تحريم
القذف، وعدوه من الكبائر.
وقد أوجب الله الحد الرادع على
القاذف، فإذا قذف المكلف المختار محصنا بزنى أو لواط، فإنه يجلد ثمانين جلدة؛ لقوله
تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ ومعنى الآية الكريمة: إن الذين يقذفون بالزنا المحصنات الحرائر
العفائف العاقلات، ثم لم يأت هؤلاء القذفة بأربعة شهداء على ما رموهن به؛ فاجلدوهم
ثمانين جلدة، ولا فرق بين كون المقذوف ذكرا أو أنثى، وإنما خص النساء بالذكر؛ لخصوص
الواقعة، ولأن قذف النساء أشنع وأغلب.
وإنما استحق القاذف هذه العقوبة
صيانة لأعراض المسلمين عن التدنيس، ولأجل كف الألسن عن هذه الألفاظ القذرة التي
تلطخ أعراض الأبرياء، وصيانة للمجتمع الإسلامي عن شيوع الفاحشة فيه.
والمحصن الذي يجب الحد بقذفه هو
الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله.
قال ابن رشد: اتفقوا على أن من
شروط المقذوف أن يجتمع فيه خمسة أوصاف: البلوغ، والحرية، والعفاف، والإسلام، وأن
يكون معه آلة الزنى، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف؛ لم يجب الحد.
وحد القذف حق للمقذوف؛ يسقط
بعفوه، ولا يقام إلا بطلبه فإذا عفا المقذوف عن القاذف؛ سقط الحد عنه، ولكنه يعزر
بما يردعه عن التمادي في القذف المحرم المتوعد عليه باللعن والعذاب الأليم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: لا يحد القاذف إلا بالطلب إجماعا انتهى.
ومن قذف غائبا لم يحد حتى يحضر
المقذوف ويطالب أو تثبت مطالبته بذلك في غيبته.
وألفاظ القذف تنقسم إلى قسمين
ألفاظ صريحة لا تحتمل غير
القذف؛ فلا يقبل منه تفسيره لغير القذف.
وألفاظ كنايات تحتل القذف
وغيره، فإذا فسرها بغير القذف، قبل منه.
فالألفاظ الصريحة، مثل قوله: يا
زاني! يا لوطي! يا عاهر! وكنايته مثل: يا قحبة! يا فاجرة! يا خبيثة! فإذا قال
القاذف: أردت بالقحبة أنها تتصنع للفجور، أو قال: أردت بالفاجرة أنها مخالفة لزوجها
فيما يجب طاعته فيه، وأردت بالخبيثة أنها خبيثة الطبع؛ قبل منه هذا التفسير، ولم
يجب عليه حدة لأن لفظه يحتمل، والحدود تدرأ بالشبهات.
وإذا قذف جماعة لا يتصور منهم
الزنى أو قذف أهل بلد لم يحد؛ وإنما يعزر بذلك؛ لأنه مقطوع بكذبه، فلا عار عليهم
بذلك، وإنما يعزر لأجل تجنب هذه الألفاظ القبيحة والشتائم البذيئة، وذلك معصية يجب
تأديبه عليها، ولو لم يطالبه أحد منهم.
ومن قذف نبيا من الأنبياء كفر،
لأن ذلك ردة عن الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقذف نساء النبي صلى الله عليه وسلم، أي:
كقذف النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بردة القاذف.
وقال الشيخ في القاذف إذا تاب
قبل علم المقذوف هل تصح توبته الأشبه أنه يختلف باختلاف الناس، وقال أكثر العلماء:
إن علم به المقذوف؛ لم تصح توبته، وإلا؛ صحت، ودعا له، واستغفر... انتهى.
ومن هذا يتبين لنا خطر اللسان،
وما يترتب على ألفاظه من مؤاخذات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«وهل
يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» وقال تعالى:
﴿مَا
يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه، ويزن ألفاظه، ويسدد أقواله، قال
الله تعالى:﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾.
باب في حد المسكر
المسكر: اسم فاعل من أسكر الشراب فهو مسكر، إذا جعل صاحبه سكران، والسكران
خلاف الصاحي، والسكر في الاصطلاح هو اختلاط العقل.
* والخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع:
قال الله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ والخمر كل ما خامر العقل أي غطاه من أي مادة كان.
وفي الصحيحين وغيرهما:
«كل
مسكر خمر، وكل خمر حرام»
«
كل شراب أسكر فهو حرام» فكل شراب أسكر كثيره؛ فقليله حرام، وهو خمر، من أي شيء كان، سواء
كان من عصير العنب أو من غيره.
قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: الخمر ما خامر العقل فكل شيء يستر العقل يسمى خمرا؛ لأنها سميت بذلك،
لمخامرتها للعقل؛ أي: سترها له.
وهذا قول جمهور أهل اللغة.
* قال الشيخ تقي الدين ابن
تيمية رحمه الله: والحشيشة نجسة في الأصح، وهي حرام، سواء سكر منها أم لم يسكر،
والمسكر منها حرام باتفاق المسلمين، وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر،
وظهورها في المائة السادسة انتهى كلامه.
وهذه الحشيشة وسائر المخدرات من
أعظم ما يفتك اليوم بشباب المسلمين، وهي أعظم سلاح يصدره الأعداء ضدنا، ويروجها
المفسدون في الأرض من اليهود وعملائهم؛ ليفتكوا بالمسلمين، ويفسدوا شبابهم،
ويعطلوهم عن الاتجاه للعمل لمجتمعاتهم والجهاد لدينهم وصد عدوان المعتدين على
شعوبهم وبلادهم، حتى أصبح كثير من شباب المسلمين مخدرين، عالة على مجتمعهم، أو
يعيشون رهن السجون، كل ذلك من آثار رواج تلك المخدرات والمسكرات في بلاد المسلمين؛
فلا حول ولا قوة. إلا بالله العلي العظيم.
والخمر حرام بأي حال، لا يجوز
شربه، لا لذة ولا لتداو ولا لعطش ولا غيره:
أما تحريم التداوي بالخمر
فلقوله صلى الله عليه وسلم:
«إنه
ليس بدواء، ولكنه داء» رواه مسلم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
«إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»
- أما تحريم شربه لدفع العطش؛
فلأنه لا يحصل به ري، بل فيه من الحرارة ما يزيد العطش.
وإذا شرب المسلم خمرا أو شرب ما
خلط به كالكولونيا ونحوها من الأطياب التي فيها كحول تسكر، متى شرب المسلم شيئا من
ذلك مختارا عالما أن كثيره يسكر؛ فإنه يجب أن يقام عليه الحد؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم:«من
شرب الخمر، فاجلدوه» رواه أبو داود وغيره.
ومقدار حد الخمر ثمانون جلدة
لأن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:
«اجعله كأخف الحدود ثمانين. فضرب عمر ثمانين، وكتب إلى خالد وأبي
عبيدة في الشام» رواه الداراقطني وغيره وكان
هذا بمحضر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فلم ينكره أحد منهم.
قال الإمام ابن القيم رحمه
الله: الحق أن عمر حد الخمر بحد القذف، وأقره الصحابة وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله:
حد الشرب ثابت بالسنة وإجماع
المسلمين أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر وكانوا
لا يرتدعون بدونها.
وقال: الصحيح أن الزيادة على
الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، ولا محرمة على الإطلاق، بل يرجع
فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه... انتهى.
ويثبت حد الخمر بإقرار الشارب
أو بشهادة عدلين.
واختلف العلماء: هل يثبت حد
الخمر على من وجدت فيه رائحتها على قولين: فقيل: لا يحد بل يعزر، وقيل: يقام عليه
الحد إذا لم يدع شبهة، وهو رواية عن أحمد وقول مالك واختيار الشيخ تقي الدين ابن
تيمية رحمه الله.
قال شيخ الإسلام: من قامت عليه
شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة به أو إخباره
عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة.
وقال ابن القيم رحمه الله: حكم
عمر وابن مسعود بوجوب الحد برائحة الخمر في الرجل أو غيره، ولم يعلم لهما مخالف.
انتهى.
وخطر الخمر عظيم، وهي مطية
الشيطان التي يركبها للإضرار بالمسلمين؛
﴿إِنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾.
والخمر أم الخبائث، وقد لعن
النبي صلى الله عليه وسلم فيها عشرة، حيث قال:«لعن
الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها،
والمحمولة إليه» فيجب على المسلمين أن يقفوا في مقاومتها موقف الحزم والشجاعة؛ بحسم
مادتها، وعقوبة من يتعاطاها أو يروجها بالعقوبة الرادعة؛ فإنها تجر إلى كل شر،
وتوقع في كل رذيلة، وتثبط عن كل خير، كفى الله المسلمين شرها وخطرها.
وقد ورد في الحديث أن قوما في
آخر الزمان يستحلونها، وقد يسمونها بغير اسمها، ويشربونها؛ فيجب على المسلمين أن
يكونوا حذرين متيقظين لأولئك الأشرار.