صفحة جديدة 11
باب في حد الزنى
وقال الفقهاء رحمهم الله: ويجب
في إقامة حد الزنى حضور إمام أو نائبه، وحضور طائفة من المؤمنين؛ لقوله تعالى:
﴿وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾..
والزنى من أعظم الجرائم، وهو
يتفاوت في الشناعة والإثم والقبح؛ فالزنى بذات زوج والزنى بذات المحرم والزنى
بحليلة الجار من أعظم أنواعه.
ولما كان الزنى من أعظم الجرائم
وكبار المعاصي؛ لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل بسببه التعارف والتناصر على
الحق، وفيه هلاك الحرث والنسل، لما كان يشتمل على هذه الآثار القبيحة؛ رتب الله
عليه هذا الحد الصارم، وهو رجم الزاني بالحجارة حتى يموت أو جلده وتغريبه عن بلده؛
ليحصل بذلك الردع عن ارتكابه، إضافة إلى ما ينشأ عنه من الأمراض التي تفتك
بالمجتمعات، ولذلك نهى عنه الشارع أشد النهي، فقال تعالى:
﴿وَلَا
تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ ورتب على ارتكابه تلك العقوبة المؤلمة.
وقد عرف الفقهاء رحمهم الله
الزنى بأنه فعل الفاحشة في قبل أو دبر.
وقال ابن رشد: هو كل وطء وقع
على غير نكاح صحيح ولا شبه نكاح ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه في الجملة من علماء
الإسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة يدرأ الحد أو لا.. انتهى.
فإذا كان الزاني محصنا مكلفا؛
رجم بالحجارة حتى يموت، رجلا كان أو امرأة، في قول أهل العلم من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج.
والرجم مع ذلك ثابت بسنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية المتواترة – وكان الرجم مذكورا في القرآن
الكريم، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وذلك في قوله تعالى: والشيخ والشيخة إذا زنيا،
فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.
ومع ثبوت الرجم بالقرآن المنسوخ لفظه دون حكمه، وبالسنة المتواترة والإجماع؛ فقد
تجرأ الخوارج ومن في حكمهم من بعض الكتاب المعاصرين إلى إنكار الرجم؛ تبعا
لأهوائهم، وتخطيا للأدلة الشرعية وإجماع المسلمين.
والمحصن الذي يجب رجمه إذا زنى
هو من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن اختل
شرط من هذه الشروط المذكورة في أحد الزوجين؛ فلا إحصان.
1-
أن يحصل منه الوطء في القبل.
2-
أن يكون الوطء في نكاح صحيح.
3-
حصول الكمال في كل منهما؛ بأن يكون بالغا حرا عاقلا.
وخص الثيب بالرجم لكونه تزوج
فعلم ما يقع به العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد
الزنى، فزال عذره من جميع الوجوه، وكملت في حقه النعمة، ومن كملت في حقه النعمة،
فجنايته أفحش؛ فهو أحق بزيادة العقوبة.
وإذا زنى المكلف الحر غير
المحصن، جلد مائة جلدة؛ لقوله تعالى:
﴿الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ وخفف عنه عقوبة المحصن، وهي القتل، وصار إلى الجلد؛ لما حصل له من
العذر، فيحقن دمه، ويزجر عن الزنى بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد، وهو ضرب
الجلد، وقال تعالى:﴿وَلَا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ أي: لا ترحموهما بترك إقامة الحد عليهما،
﴿إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فإن الإيمان ليقتضي الصلابة في الدين، والاجتهاد في إقامة أحكامه.
وثبت مع الجلد تغريبه عاما بسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما روى الترمذي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم
ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب، وقال:
«البكر
بالبكر جلد مائة وتغريب عام»
وإذا كان الزاني مملوكا؛ جلد
خمسين جلدة؛ لقوله تعالى في الإماء:
﴿فَإِذَا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ ولا فرق بين الذكر والأنثى، والعذاب المذكور في القرآن الكريم هو
الجلد، والرجم وإن كان قد ذكر في القرآن، فإنه نسخ لفظه وتلاوته وبقي حكمه.
ولا تغريب على الرقيق؛ لأن في
ذلك إضرارا بسيده، ولأن السنة لم يرد فيها تغريب المملوك إذا زنى؛ فقد قال صلى الله
عليه وسلم في الأمة إذا لم تحصن:
«إذا
زنت، فاجلدوها، ثم إن زنت؛ فاجلدوها» ولم يذكر تغريبا.
ولا يجب الحد إلا إذا خلا الوطء
من الشبهة لقوله صلى الله عليه وسلم:
«ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» فلا حد على من وطئ
امرأة يظنها زوجته، أو وطئها بعقد باطل اعتقد صحته، أو وطئ في نكاح مختلف فيه، أو
كان يجهل تحريم الزنى وهو قريب عهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة عن دار الإسلام،
أو كانت المرأة مكرهة على الزنى.
قال ابن المنذر: أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات... انتهى.
وهذا من يسر هذه الشريعة؛ لأن
الشبهة تدل على عدم تعمده للجريمة، والله تعالى يقول:
﴿وَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
ومن شروط وجوب إقامة الحد على الزاني: ثبوت وقوع الزنى منه،
ولا يثبت إلا بأحد أمرين:
الأمر الأول: أن يقر به أربع مرات، وذلك لحديث ماعز بن مالك رضي الله عنه فإنه
اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات: الأولى، ثم الثانية... ورده حتى
أكمل أربع مرات، فلو كان ما دونها يكفي؛ لأقام الحد عليه به.
ويشترط لصحة الإقرار بالزنى أن
يصرح بحقيقة الوطء، وأن لا يرجع عن إقراره حتى يقام عليه الحد، فلو لم يصرح بذكر
حقيقة الزنى؛ لم يحد؛ لاحتمال أنه أفاد غيره مما لا يوجب الحد من الاستمتاع المحرم،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لماعز رضي الله عنه حينما أقر عنده:
«لعلك
قبلت، أو غمزت» قال: لا. وكرر معه صلى الله
عليه وسلم الاستيضاح، حتى زالت كل الاحتمالات، ولو رجع عن إقراره قبل إقامة الحد
عليه لم يقم عليه، وذلك لما ثبت من تقريره صلى الله عليه وسلم ماعزا وغيره مرة بعد
مرة لعله يرجع، ولقوله صلى الله عليه وسلم لما هرب:
«فهلا
تركتموه، لعله يتوب فيتوب الله عليه»
الأمر الثاني: أن يشهد به عليه أربعة شهود،
لقوله تعالى:
﴿لَوْلَا
جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾
وقوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾..
ولقوله تعالى:
﴿فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾
ويشترط لصحة شهادتهم عليه شروط:
الأول: أن يشهدوا عليه في مجلس واحد.
الثاني: أن يشهدوا عليه بزنى واحد؛ أي: واقعة واحدة...
الثالث: أن يصفوا الزنى بما يدفع كل الاحتمالات عن إرادة غيره من الاستمتاع
المحرم؛ لأن الزنى قد يعبر به عما لا يوجب الحد، فلا بد من تصريحهم به لتنتفي
الشبهة.
الرابع: أن يكونوا رجالا عدولا؛ فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا شهادة
الفساق.
الخامس: أن لا يكون فيهم من به مانع من عمى أو غيره...
فإن اختل شرط من هذه الشروط؛
وجب إقامة حد القذف عليهم؛ لأنهم قذفة، والله تعالى يقول:
﴿وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾.
وثبوت الزنى بالبينة المذكورة أو الإقرار متفق عليه بين العلماء،
وقد اختلفوا هل يثبت بأمر ثالث، وهو الحبل، كما لو حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد:
فقال بعضهم: لا يثبت بذلك حد؛ لأنه يحتمل أنه من وطء إكراه أو شبهة. وقال بعضهم: بل
تحد بذلك إن لم تدع شبهة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين؛ وهو الأشبه بالأصول
الشرعية، ومذهب أهل المدينة؛ فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها.
وقال ابن القيم: وحكم عمر برجم الحامل بلا زوج ولا سيد وهو مذهب مالك، وأصح
الروايتين عن أحمد، اعتمادا على القرينة الظاهرة.