صفحة جديدة 3
باب في أحكام التصرف في البيع قبل قبضه والإقالة
* نتناول في هذا الباب إن شاء الله أحكام التصرف في المبيع قبل قبضه - ما يصح وما
لا يصح - مع بيان ما يحصل به قبض المبيع ويعد قبضا صحيحا، وما لا يعد قبضا صحيحا.
* اعلم أنه لا يصح التصرف في
المبيع قبل قبضه إذا كان مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا باتفاق الأئمة، وكذا
إذا كان غير ذلك على الصحيح الراجح من قولي العلماء رحمهم الله، لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «من
ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يستوفيه» متفق عليه، وفي لفظ: «حتى
يقبضه» ولمسلم: حتى يكتاله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما:
ولا أحسب غيره إلا مثله، أي غير الطعام، بل ورد ذلك صريحا كما روى الإمام أحمد: «إذا
اشتريت شيئا، فلا تبعه حتى تقبضه»..
وروى أبو داود: «نهى
أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التاجر إلى رحالهم»..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم رحمهما الله: علة النهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن
تسلمه؛ لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح، فإنه
يسعى في رد البيع؛ إما بجحد أو احتيال على الفسخ، وتأكد ذلك بالنهي عن ربح ما لم
يضمن انتهى.
فيجب على المسلمين أن يتقيدوا
بذلك، فإذا اشترى المسلم سلعة، لم يقدم على التصرف فيها ببيع أو غيره حتى يقبضها
قبضا تاما، وهذا مما يتساهل فيه كثير من الناس أو يتجاهلونه، فيشترون السلع ثم
يبيعونها وهم لم يقبضوها من البائع أصلا أو قبضوها قبضا ناقصا لا يعد قبضا صحيحا،
كأن يعد الأكياس أو الطرود أو الصناديق وهي في محل البائع، ثم يذهب ويبيعها على
آخر، وهذا لا يعد قبضا صحيحا، يترتب علية جواز تصرف المشتري فيها.
*
فإن قلت: ما هو القبض الصحيح
الذي يسوغ للمشتري التصرف في السلعة؟
فالجواب أن قبض السلع يختلف باختلاف نوعيتها، وكل نوع له قبض يناسبه، فإذا
كان المبيع مكيلا فقبضه بالكيل، وإن كان موزونا فقبضه بالوزن، وإن كان معدودا فقبضه
بالعد، وإن كان مذروعا فقبضه بالذرع، مع حيازة هذه الأشياء إلى مكان المشتري، وما
كان كالثياب والحيوانات والسيارات فقبضه بنقله إلى مكان المشتري، وإن كان المبيع
مما يتناول باليد كالجواهر والكتب ونحوها فقبضه يحصل بتناول المشتري له بيده
وحيازته، وإن كان المبيع مما لا يمكن نقله من مكانه؛ كالبيوت والأراضي والثمر على
رءوس الشجر، فقبضه يحصل بالتخلية، بأن يمكن منه المشتري، ويخلى بينه وبينه ليتصرف
فيه تصرف المالك، وتسليم الدار ونحوها بأن يفتح له بابها أو يسلمه مفتاحها.
* وقد مر من الأحاديث في النهي
عن التصرف في المبيع قبل قبضه المعتبر شرعا؛ لما في ذلك من المصلحة للمشتري
والبائع؛ من قطع النزاع، والسلامة من الخصومات التي كثيرا ما تنشب بين الناس بسبب
تساهلهم في القبض وعدم تفقد المشتري للسلعة واستيفائها بالوفاء والتمام وانقطاع
عهدة البائع بها، وهذا أمر ينبغي للمسلم التقيد به وتطبيقه في معاملته.
* وكثير من الناس اليوم
يتساهلون في قبض السلع، ويتصرفون فيها قبل القبض الشرعي، فيرتكبون ما نهى عنه
الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقعون في الخصومات والمنازعات، أو يصابون بالندامة
عندما تنكشف لهم السلعة على حقيقتها وقد تورطوا فيها؛ فلا يستطيعون الخلاص منها إلا
بمرافعات ومدافعات، وهكذا كل من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يندم
ويقع في الحرج.
* ومما حث عليه الرسول صلى الله
عليه وسلم ورغب فيه: إقالة أحد المتعاقدين للآخر بفسخ البيع عندما يندم على العقد
أو تزول حاجته بالسلعة أو يعسر بالثمن..
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من
أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة»..
والإقالة معناها: رفع العقد،
ورجوع كل من المتعاقدين بما كان له من غير زيادة ولا نقص، وهي من حق المسلم على
أخيه المسلم عندما يحتاج إليها، وهي من حسن المعاملة، ومن مقتضى الأخوة الإيمانية.
باب في بيان الربا وحكمه
* هذا الموضوع من أخطر المواضيع، وهو موضوع الربا الذي أجمعت الشرائع على تحريمه
وتوعد الله المتعامل به بأشد الوعيد:
قال تعالى:
﴿الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾..
فأخبر سبحانه أن الذين
يتعاملون بالربا (لا يقومون) أي من قبورهم عند البعث (إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس) أي إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وذلك لتضخم بطونهم بسبب أكلهم
الربا في الدنيا.
كما توعد الله سبحانه الذي يعود
إلى أكل الربا بعد معرفة تحريمه بأنه من أصحاب النار الخالدين فيها..
قال تعالى:
﴿وَمَنْ
عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾..
كما أخبر الله سبحانه أنه يمحق
بركة الربا..
قال تعالى:
﴿يَمْحَقُ
اللَّهُ الرِّبَا﴾..
أي يمحق بركة المال الذي خالطه
الربا فمهما كثرت أموال المرابي وتضخمت فهي ممحوقة البركة لا خير فيها، وإنما هي
وبال على صاحبها، تعب في الدنيا وعذاب في الآخرة، ولا يستفيد منها. وقد وصف الله
المرابي بأنه كفار أثيم..
قال تعالى:
﴿يَمْحَقُ
اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ
أَثِيمٍ﴾..
فأخبر الله سبحانه أنه لا يحب
المرابي، وحرمانه من محبة الله يستلزم أن الله يبغضه ويمقته، وتسميته كَفّارا، أي:
مبالغا في كفر النعمة، وهو الكفر الذي لا يخرج من الملة؛ فهو كفار لنعمة الله؛ لأنه
لا يرحم العاجز، ولا يساعد الفقير، ولا ينظر المعسر، أو المراد أنه كَفّار الكفرَ
المخرج من الملة إذا كان يستحل الربا، وقد وصفه الله في هذه الآية بأنه أثيم؛ أي:
مبالغ في الإثم، منغمس في الأضرار المادية والخلقية.
وقد أعلن الله الحرب منه ومن
رسوله على المرابي لأنه عدو لهما إن لم يترك الربا، ووصفه بأنه ظالم، قال تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾...
وإلى جانب هذه الزواجر
القرآنية عن التعامل بالربا جاءت زواجر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد عده
النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر الموبقة؛ أي المهلكة، ولعن صلى الله عليه وسلم
آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم:
«أن درهما واحدا من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام، أو ست وثلاثين
زنية»..
وأخبر:
«أن الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه»..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر، وهو القمار، لأن المرابي قد أخذ فضلا
محققا من محتاج، والمقامر قد يحصل له فضل وقد لا يحصل له فضل؛ فالربا ظلم محقق، لأن
فيه تسليط الغني على الفقير؛ بخلاف القمار فإنه قد يأخذ فيه الفقير من الغني، وقد
يكون المتقامران متساويين في الغنى والفقر؛ فهو وإن كان أكلا للمال بالباطل، وهو
محرم؛ فليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا، ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من
ظلم غير المحتاج.. انتهى.
وأكل الربا من صفات اليهود التي
استحقوا عليها اللعنة الخالدة والمتواصلة، قال الله تعالى:
﴿فَبِظُلْمٍ
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا
عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾..
* والحكمة في تحريم الربا: أن
فيه أكلا لأموال الناس بغير حق، لأن المرابي يأخذ منهم الربا من غير أن يستفيدوا
شيئا في مقابله، وأن فيه إضرارا بالفقراء والمحتاجين بمضاعفة الديون عليهم عند
عجزهم عن تسديدها، وأن فيه قطعا للمعروف بين الناس، وسدا لباب القرض الحسن، وفتحا
لباب القرض بالفائدة التي تثقل كاهل الفقير، وفيه تعطيل للمكاسب والتجارات والحرف
والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها، لأن المرابي إذا تحصل على زيادة
ماله بواسطة الربا بدون تعب؛ فلن يلتمس طرقا أخرى للكسب الشاق، والله تعالى جعل
طريق تعامل الناس في معايشهم قائما على أن تكون استفادة كل واحد من الآخر في مقابل
عمل يقوم به نحوه أو عين يدفعها إليه، والربا خال عن ذلك؛ لأنه عبارة عن إعطاء
المال مضاعفا من طرف لآخر بدون مقابلة من عين ولا عمل.
*
والربا في اللغة:
معناه الزيادة، وهو في الشرع زيادة في أشياء مخصوصة، وينقسم إلى قسمين: ربا
النسيئة، وربا الفضل.
*
بيان ربا النسيئة وربا النسيئة مأخوذ من النسء، وهو التأخير،
وهو نوعان:
أحدهما: قلب الدين على المعسر، وهذا هو أصل الربا في الجاهلية أن الرجل
يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حل الأجل؛ قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاه
وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال في ذمة المدين، فحرم الله
ذلك بقوله:
﴿وَإِنْ
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾
فإذا حل الدين، وكان الغريم معسرا، لم يجز أن يقلب الدين عليه، بل يجب إنظاره، وإن
كان موسرا كان عليه الوفاء؛ فلا حاجة إلى زيادة الدين مع يسر المدين ولا مع عسره.
النوع الثاني من ربا النسيئة: ما كان في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل مع تأثير قبضهما أو
قبض أحدهما؛ كبيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير،
والتمر بالتمر، والملح بالملح، وكذا بيع جنس بجنس من هذه المذكورات مؤجلا، وما شارك
هذه الأشياء في العلة يجري مجراها وسيأتي بيان ذلك.