صفحة جديدة 2
باب في أحكام الشروط في البيع
الشروط في البيع كثيرة الوقوع،
وقد يحتاج المتبايعان أو أحدهما إلى شرط أو أكثر، فاقتضى ذلك البحث في الشروط،
وبيان ما يصح ويلزم منها وما لا يصح.
والفقهاء رحمهم الله يعرفون
الشرط في البيع بأنه إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة، ولا
يعتبر الشرط في البيع عندهم ساري المفعول إلا إذا اشترط في صلب العقد؛ فلا يصح
الاشتراط قبل العقد ولا بعده.
والشروط في البيع تنقسم إلى
قسمين:
صحيحة وفاسدة:
أولا: الشروط الصحيحة: وهي الشروط التي لا تخالف مقتضى العقد وهذا القسم
يلزم العمل بمقتضاه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
«المسلمون
على شروطهم» ولأن الأصل في الشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع ونهى عنه.
والقسم الصحيح من الشروط نوعان:
النوع الأول: شرط لمصلحة العقد بحيث يتقوى به العقد، وتعود مصلحته على المشترط؛
كاشتراط التوثيق بالرهن، أو اشتراط الضامن، وهذا يطمئن البائع، واشتراط تأجيل الثمن
أو تأجيل بعضه إلى مدة معلومة، وهذا يستفيد منه المشتري، فإذا وفي بهذا الشرط، لزم
البيع، وكذلك لو اشترط المشتري صفة في المبيع، مثل كونه من النوع الجيد أو من
الصناعة الفلانية أو الإنتاج الفلاني؛ لأن الرغبات تختلف باختلاف ذلك، فإن أتى
المبيع على الوصف المشترط لزم البيع، وإن اختلف عنه؛ فللمشتري الفسخ أو الإمساك مع
تعويضه عن فقد الشرط، بحيث يقوم المبيع مع تقدير وجود الصفة المشترطة، ثم يقوم مع
فقدها، ويدفع له الفرق بين القيمتين إذا طلب.
النوع الثاني من الشروط الصحيحة في البيع: أن يشترط أحد المتعاقدين على الآخر
بذل منفعة مباحة في المبيع؛ كأن يشترط البائع سكنى الدار المبيعة مدة معينة، أو أن
يحمل على الدابة أو السيارة المبيعة إلى موضع معين؛ لما روى جابر: «أن
النبي صلى الله عليه وسلم باع جملا واشترط ظهره إلى المدينة» متفق عليه...
فالحديث يدل على جواز بيع
الدابة مع استثناء ركوبها إلى موضع معين، ويقاس عليها غيرها، وكذا لو اشترط المشتري
على البائع بذل عمل في المبيع؛ كأن يشتري منه حطبا، ويشترط عليه حمله إلى موضع
معلوم، أويشتري منه ثوبا، ويشترط عليه خياطته.
ثانيا: الشروط الفاسدة: وهذا
القسم أنواع:
النوع الأول: شرط فاسد يبطل العقد من أصله، ومثاله أن يشترط أحدهما على الآخر
عقدا آخر، كأن يقول: بعتك هذه السلعة بشرط أن تؤجرني دارك، أو يقول: بعتك هذه
السلعة بشرط أن تشركني معك في عملك الفلاني أو في بيتك، أو يقول: بعتك هذه السلعة
بكذا بشرط أن تقرضني مبلغ كذا من الدراهم؛ فهذا الشرط فاسد، وهو يبطل العقد من
أساسه، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وقد فسر الإمام أحمد رحمه
الله الحديث بما ذكرنا.
النوع الثاني
من الشروط الفاسدة في البيع: ما يفسد في نفسه، ولا يبطل البيع؛ مثل أن يشترط المشتري على البائع
أنه إن خسر في السلعة ردها عليه، أو شرط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة ونحو
ذلك فهذا شرط فاسد؛ لأنه يخالف مقتضى العقد، لأن مقتضى البيع أن يتصرف المشتري في
السلعة تصرفا مطلقا، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من
اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» متفق عليه، والمراد بكتاب الله هنا حكمه؛ ليشمل ذلك سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
والبيع لا يبطل مع بطلان هذا
الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة حينما اشترط بائعها ولاءها له إن
أعتقت أبطل الشرط، ولم يبطل العقد، وقال صلى الله عليه وسلم:«إنما
الولاء لمن أعتق».
* إنه ينبغي للمسلم الذي يشتغل
بالبيع والشراء أن يتعلم أحكام البيع وما يصح فيه من الشروط وما لا يصح؛ حتى يكون
على بصيرة في معاملته، ولتنقطع الخصومات والمنازعات بين المسلمين؛ فإن غالبها ينشأ
من جهل المتبايعين أو أحدهما بأحكام البيع، واشتراطهم شروطا فاسدة.
باب في أحكام الخيار في البيع
* دين الإسلام دين سمح شامل، يراعي المصالح والظروف، ويرفع الحرج والمشقة عن الأمة،
ومن ذلك ما شرعه في البيع من إعطاء الخيار للعاقد، ليتروى في أمره وينظر في مصلحته
من وراء تلك الصفقة؛ فيقدم على ما يؤمل من ورائه الخير، ويحجم ويتراجع عما لا يراه
في مصلحته.
* فالخيار في البيع معناه طلب
خير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ
وهو ثمانية أقسام: -
أولا: خيار المجلس أي المكان الذي جرى فيه التبايع؛ فلكل من المتبايعين
الخيار ما داما في المجلس، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا
تبايع الرجلان؛ فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعا»..
قال العلامة ابن القيم رحمه
الله: في إثبات الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام
الرضى الذي شرطه تعالى بقوله:
﴿عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ فإن العقد يقع بغتة
من غير ترو ولا نظر في القيمة؛ فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد
حرما يتروى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما، فلكل من
المتبايعين الخيار بموجب هذا الحديث الشريف؛ ما لم يتفرقا بأبدانهما من مكان
التبايع، فإن أسقطا الخيار بأن تبايعا على أن لا خيار لهما أو أسقطه أحدهما سقط،
ولزم البيع في حقهما أو حق من أسقطه منهما بمجرد العقد؛ لأن الخيار حق للعاقد،
فيسقط بإسقاطه ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ما
لم يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر»
ويحرم على أحدهما أن يفارق أخاه بقصد
إسقاط الخيار؛ لحديث عمرو بن شعيب وفيه: «ولا
يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله».
ثانيا: خيار الشرط بأن يشترط المتعاقدان الخيار في صلب العقد أو بعد العقد
في مدة خيار المجلس مدة معلومة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون
على شروطهم»، ولعموم قوله تعالى:﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.
ويصح أن يشترط المتبايعان
الخيار لأحدهما دون الآخر؛ لأن الحق لهما، فكيفما تراضيا جاز.
- ثالثا: خيار الغبن إذا غبن في البيع غبنا يخرج عن العادة؛ فيخير المغبون
منهما بين الإمساك والرد..
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
ضرر ولا ضرار»..
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه»
والمغبون لم تطب نفسه بالغبن، فإن كان الغبن يسيرا قد جرت به العادة فلا خيار.
وخيار الغبن يثبت في ثلاث صور:
الصورة الأولى من صور خيار
الغبن: تلقي الركبان، والمراد بهم القادمون لجلب
سلعهم في البلد، فإذا تلقاهم، واشترى منهم، وتبين أنه قد غبنهم غبنا فاحشا؛ فلهم
الخيار..
لقول النبي صلى الله عليه
وسلم: «لا
تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» رواه مسلم؛ فنهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب خارج السوق الذي
تباع فيه السلع، وأمر أنه إذا أتى البائع السوق الذي تعرف فيه قيم السلع، وعرف ذلك
فهو بالخيار بين أن يمضي البيع أو يفسخ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله: أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للركبان الخيار إذا تلقوا؛ لأن فيه نوع تدليس
وغش . وقال ابن القيم: نهى عن ذلك؛ لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر،
فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار
إذا دخل السوق، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن؛ فإن الجالب إذا لم يعرف السعر
كان جاهلا بثمن المثل، فيكون المشتري غارّا له، وكذا البائع إذا باعهم شيئا؛ فلهم
الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم غبنوا غبنا يخرج عن العادة. انتهى.
الصورة الثانية من صور خيار
الغبن: الغبن الذي يكون سببه زيادة الناجش في ثمن
السلعة، والناجش: هو الذي يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد رفع ثمنها
على المشتري، وهذا عمل محرم...
قد نهى عنه النبي صلى الله
عليه وسلم بقوله: «ولا
تناجشوا» لما في ذلك من تغرير المشتري وخديعته، فهو في معنى الغش. ومن صور
النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة: أعطيت بها كذا وكذا وهو كاذب، أو يقول: اشتريتها
بكذا وهو كاذب.
ومن
صور النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة:
لا أبيعها إلا بكذا أو كذا، لأجل أن يأخذها المشتري بقريب مما قال، كأن يقول في
سلعة ثمنها خمسة: أبيعها بعشرة؛ ليأخذها المشتري بقريب من العشرة.
الصورة الثالثة من صور الغبن
الذي يثبت به الخيار: غبن المسترسل.
قال الإمام ابن القيم: وفي
الحديث:
«غبن المسترسل ربا» والمسترسل: هو الذي يجهل القيمة ولا يحسن
أن يناقص في الثمن، بل يعتمد على صدق البائع لسلامة سريرته، فإذا غبن غبنا فاحشا؛
ثبت له الخيار .
والغبن محرم؛ لما فيه من
التغرير للمشتري. ومما يجري في بعض أسواق المسلمين - وهو محرم - أن بعض الناس حينما
يجلب إلى السوق سلعة، يتفق أهل السوق على ترك مساومتها، ويعمدون واحدا منهم يسومها
من صاحبها، فإذا لم يجد من يزيد عليه، اضطر لبيعها عليه برخص، ثم اشترك البقية مع
المشتري، وهذا غبن وظلم محرم، ويثبت لصاحب السلعة - إذا علم بذلك - الخيار وسحب
سلعته منهم؛ فيجب على من يفعل مثل هذا التغرير أن يتركه ويتوب منه، ويجب على من علم
ذلك أن ينكره على من يفعله ويبلغ المسئولين لردعهم عن ذلك.
-
رابعا: خيار التدليس أي الخيار الذي
يثبت بسبب التدليس، والتدليس: هو إظهار السلعة المعيبة بمظهر السليمة، مأخوذ من
الدلسة بمعنى: الظلمة؛ كأن البائع بتدليسه صير المشتري في ظلمة، فلم يتم إبصاره
للسلعة..
وهو نوعان:
النوع الأول: كتمان عيب السلعة.
والنوع الثاني: أن يزوقها وينمقها بما يزيد به ثمنها.
والتدليس حرام، وتسوغ به
الشريعة للمشتري الرد، لأنه إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له
البائع، ولو علم أنه على خلافها لما بذل ماله فيها.
ومن أمثلة التدليس الواردة: تصرية الغنم والبقر والإبل، وهي حبس لبنها في ضروعها عند عرضها
للبيع، فيظنها المشتري كثيرة اللبن دائما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها
إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر»..
ومن أمثلة التدليس تزويق البيوت
المعيبة للتغرير بالمشتري والمستأجر، وتزويق السيارات حتى تظهر بمظهر غير المستعملة
للتغرير بالمشتري، وغير ذلك من أنواع التدليس. يجب على المسلم أن يصدق ويبين
الحقيقة، قال صلى الله عليه وسلم:
«البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت
بركة بيعهما» فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصدق في البيع والشراء من أسباب
البركة، وأن الكذب من أسباب محق البركة، فالثمن وإن قل مع الصدق يبارك الله فيه،
وإن كثر الثمن مع الكذب فهو ممحوق البركة لا خير فيه.
-
خامسا: خيار العيب أي الخيار الذي
يثبت للمشتري بسبب وجود عيب في السلعة لم يخبره به البائع أو لم يعلم به البائع،
لكنه تبين أنه موجود في السلعة قبل البيع، وضابط العيب الذي يثبت به الخيار هو ما
تنقص بسببه قيمة المبيع عادة أو تنقص به عينه، وترجع معرفة ذلك إلى التجار
المعتبرين، فما عدوه عيبا، ثبت الخيار به، وما لم يعدوه عيبا ينقص القيمة أو عين
المبيع، لم يعتبر، فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد، فله الخيار بين أن يمضي
البيع ويأخذ عوض العيب، وهو مقدار الفرق بين قيمة المبيع صحيحا وقيمته معيبا، وبين
أن يفسخ البيع ويرد السلعة ويسترجع الثمن الذي دفعه للمشتري.
-
سادسا: ما يسمى بخيار التخبير بالثمن
وهو ما إذا باع السلعة بثمنها الذي اشتراها به، فأخبره بمقداره، ثم تبين أنه أخبر
بخلاف الحقيقة، كأن تبين أن الثمن أكثر أو أقل مما أخبره به، أو قال: أشركتك معي في
هذه السلعة برأس مالي، أو قال: بعتك هذه السلعة بربح كذا وكذا على رأس مالي فيها،
أو قال: بعتك هذه السلعة بنقص كذا وكذا عما اشتريتها به؛ ففي هذه الصور الأربع إذا
تبين أن رأس المال خلاف ما أخبره به؛ فله الخيار بين الإمساك والرد، على قول في
المذهب، والقول الثاني: أنه في هذه الحالة لا خيار للمشتري، ويجري الحكم على الثمن
الحقيقي، ويسقط عنه الزائد، والله أعلم.
سابعا: خيار يثبت إذا اختلف المتبايعان في بعض الأمور، كما إذا اختلفا في
مقدار الثمن، أو اختلفا في عين المبيع، أو قدره، أو اختلفا في صفته، ولا بينة
لأحدهما، فحينئذ يتحالفان، فيحلف كل منهما على ما يدعيه، ثم بعد التحالف لكل منهما
الفسخ إذا لم يرض بقول الأخر.
ثامنا: خيار يثبت للمشتري إذا اشترى شيئا بناء على رؤية سابقة، ثم وجده قد
تغيرت صفته، فله الخيار حينئذ بين إمضاء البيع وفسخه، والله أعلم.