صفحة جديدة 3
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضاً أَنَّ اَللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّى
طَاعَةَ اَلشَّيْطَانِ فِي مَعْصِيَةٍ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ -
تَعَالَى -:
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ
يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾
[يس:60]
وَقَالَ حَاكِياً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ
لِأَبِيهِ:
﴿يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ
الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾
[مريم:44]
فَمَنْ لَمْ يُحَقِّقْ عُبُودِيَّةَ اَلرَّحْمَنِ وَطَاعَتَهُ
فَإِنَّهُ يَعْبُدُ اَلشَّيْطَانَ بِطَاعَتِهِ لَهُ، وَلَمْ يَخْلُصْ مِنْ
عِبَادَةِ اَلشَّيْطَانِ إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ عُبُودِيَّةَ اَلرَّحْمَنِ, وَهُمْ
اَلَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:
﴿إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر:42]
فَهُمْ اَلَّذِينَ حَقَّقُوا قَوْلَ لَا
إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَأَخْلَصُوا فِي قَوْلِهَا، وَصَدَّقُوا قَوْلَهُمْ
بِفِعْلِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ اَللَّهِ, مَحَبَّةً وَرَجَاءً
وَخَشْيَةً وَطَاعَةً وَتَوَكُّلاً، وَهُمْ اَلَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِ: لَا
إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَهُمْ عِبَادُ اَللَّهِ حَقّاً.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ بِلِسَانِهِ، ثُمَّ
أَطَاعَ اَلشَّيْطَانَ وَهَوَاهُ فِي مَعْصِيَةِ اَللَّهِ وَمُخَالَفَتِهِ فَقَدْ
كَذَّبَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ، وَنَقَصَ مِنْ كَمَالِ تَوْحِيدِهِ بِقَدْرِ مَعْصِيَةِ
اَللَّهِ فِي طَاعَةِ اَلشَّيْطَانِ وَالْهَوَى
﴿وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
[القصص:50]، ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص:26]
فَيَا هَذَا كُنْ عَبْدَ اَللَّهِ لَا عَبْدَ اَلْهَوَى، فَإِنَّ
اَلْهَوَى يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي اَلنَّارِ:
﴿أَأَرْبَابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾
[يوسف:39]
تَعِسَ عَبْدُ اَلدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ
اَلدِّينَارِ وَاَللَّهُ مَا يَنْجُو غَداً مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ إِلَّا مَنْ
حَقَّقَ عُبُودِيَّةَ اَللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ مَعَهُ إِلَيَّ شَيْءٍ
مِنَ اَلْأَغْيَارِ.
مِنْ عَلِمَ أَنَّ إِلَهَهُ وَمَعْبُودَهُ فَرْدٌ، فَلْيُفْرِدْهُ
بِالْعُبُودِيَّةِ
﴿وَلا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110]
كَانَ بَعْضُ اَلْعَارِفِينَ يَتَكَلَّمُ
عَلَى أَصْحَابِهِ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: لَا يَنَالُ
أَحَدٌ مُرَادَهُ حَتَّى يَنْفَرِدَ فَرْداً بِفَرْدٍ، فَانْزَعَجَ وَاضْطَرَبَ,
حَتَّى رَأَى أَصْحَابُهُ أَنَّ اَلصُّخُورَ قَدْ تَدَكْدَكَتْ، وَبَقِيَ عَلَى
ذَلِكَ سَاعَاتٍ، فَلَمَّا أَفَاقَ فَكَأَنَّهُ نُشِرَ مِنْ قَبْرٍ.
قَوْلُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ تَقْتَضِي أَلَّا يُحِبَّ
سِوَاهُ، فَإِنَّ اَلْإِلَهَ هُوَ اَلَّذِي يُطَاعُ، مَحَبَّةً وَخَوْفاً
وَرَجَاءً.وَمِنْ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ، وَكَرَاهَةُ مَا
يَكْرَهُهُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئاً مِمَّا يَكْرَهُ اَللَّهُ، أَوْ كَرِهَ شَيْئاً
مِمَّا يُحِبُّهُ اَللَّهُ لَمْ يَكْمُلْ تَوْحِيدُهُ وَلَا صِدْقُهُ فِي قَوْلِهِ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ اَلشِّرْكِ اَلْخَفِيِّ بِحَسْبِ
مَا كَرِهَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اَللَّهُ، وَمَا أَحَبَّهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ.قَالَ
تَعَالَى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾
[محمد:28]
قَالَ اَللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:55] قَالَ: لَا تُحِبُّوا غَيْرِي.
وَفِي صَحِيحِ اَلْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ
عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«اَلشِّرْكُ
أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ اَلذَّرِّ عَلَى اَلصَّفَا فِي اَللَّيْلَةِ اَلظَّلْمَاءِ»،
وَأَدْنَاهُ أَنْ تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ اَلْجَوْرِ، أَوْ تُبْغِضَ عَلَى
شَيْءٍ مِنَ اَلْعَدْلِ، وَهَلْ اَلدِّينُ إِلَّا اَلْحُبُّ وَالْبُغْضُ؟ قَالَ
اَللَّهُ - تَعَالَى -: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمْ اَللَّهُ﴾
[آلُ عِمْرَانَ: 31] وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اَللَّهُ
وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى، وَالْمُوَلَاةُ عَلَى ذَلِكَ
وَالْمُعَادَاةُ عَلَيْهِ مِنْ اَلشِّرْكِ اَلْخَفِيِّ
قَالَ اَلْحَسَنُ: اِعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ
تُحِبَّ اَللَّهَ حَتَّى تُحِبَّ طَاعَتَهُ
وَسُئِلَ ذُو اَلنُّونِ: مَتَى أُحِبُّ
رَبِّي؟ قَالَ: إِذَا كَانَ مَا يُبْغِضُهُ عِنْدَكَ أَمَرَّ مِنْ اَلصَّبْرِ
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ اَلسَّرِيِّ: لَيْسَ مِنْ أَعْلَامِ اَلْحُبِّ أَنْ تُحِبَّ
مَا يُبْغِضُهُ حَبِيبُكَ
وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبُ النَّهْرَجَوْرِي:
كُلُّ مَنْ اِدَّعَى مَحَبَّةَ اَللَّهِ وَلَمْ يُوَافِقْ اَللَّهَ فِي أَمْرِهِ
فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَيْسَ
بِصَادِقٍ مَنْ اِدَّعَى مَحَبَّةَ اَللَّهِ, وَلَمْ يَحْفَظْ حُدُودَهُ.
وَقَالَ رُوَيْمٍ اَلْمَحَبَّةُ
وَالْمُوَافَقَةُ فِي جَمِيعِ اَلْأَحْوَالِ، وَأَنْشَدَ.
وَلَوْ قُلْتَ لِي: مُتْ.مِتُّ سَمْعاً
وَطَاعَةً
وَقُلْــتُ لِـدَاعِي اَلْمَـوْتِ: أَهْلاً
ومرحباً
وَيَشْهَدُ لِهَذَا اَلْمَعْنَى أَيْضاً قَوْلُهُ - تَعَالَى -:
﴿قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾
[آل عمران:31]
قَالَ اَلْحَسَنُ: قَالَ أَصْحَابُ
اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اَللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا
حُباً شَدِيداً؛ فَأَحَبَّ اَللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِحُبِهِ عَلَماً، فَأَنْزَلَ
اَللَّهُ - تَعَالَى - هَذِهِ اَلْآيَةَ
وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَتِمُّ
شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ إِلَّا بِشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّداً
رَسُولُ اَللَّهِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَتِمُّ مَحَبَّةُ اَللَّهِ
إِلَّا بِمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ وَكَرَاهَةِ مَا يَكْرَهُهُ.فَلَا طَرِيقَ إِلَى
مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ
اَلْمُبَلِّغِ عَنْ اَللَّهِ مَا يُحِبُّهُ وَمَا يَكْرَهُهُ فَصَارَتْ مَحَبَّةُ
اَللَّهِ مُسْتَلْزِمَةً لِمَحَبَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَصْدِيقِهِ
وَمُتَابَعَتِهِ.
وَلِهَذَا قَرَنَ اَللَّهُ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ
رَسُولِهِ فِي قَوْلِهِ:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ﴾ [التوبة:24]
إِلَى قَوْلِهِ:
﴿أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
[التوبة:24]
كَمَا قَرَنَ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
«ثَلَاثٌ
مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ اَلْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اَللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ اَلْمَرْءُ لَا
يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اَلْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنْقَذَهُ اَللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي اَلنَّار»ِ.
هَذِهِ حَالُ اَلسَّحَرَةِ لَمَّا سَكَنَتْ اَلْمَحَبَّةُ
قُلُوبَهُمْ، سَمَحُوا بِبَذْلِ نُفُوسِهِمْ، قَالُوا لِفِرْعَوْنَ:
﴿فَاقْضِ
مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه:72]
وَمَتَى تَمَكَّنَتْ اَلْمَحَبَّةُ فِي
اَلْقَلْبِ لَمْ تَنْبَعِثْ اَلْجَوَارِحُ إِلَّا إِلَى طَاعَةِ اَلرَّبِّ، وَهَذَا
هُوَ مَعْنَى اَلْحَدِيثِ اَلْإِلَهِيِّ اَلَّذِي خَرَّجَهُ اَلْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ, وَفِيهِ:
«وَلَا يَزَالُ
عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ, فَإِذَا
أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ اَلَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ اَلَّذِي
يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ اَلَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ اَلَّتِي يَمْشِي
بِهَا».
وَفِي بَعْضِ اَلرِّوَايَاتِ: «فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ, وَبِي يَبْطِشُ, وَبِي يَمْشِي»؛
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَحَبَّةَ اَللَّهِ
إِذَا اِسْتَغْرَقَ بِهَا اَلْقَلْبُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَنْبَعِثْ
اَلْجَوَارِحُ إِلَّا إِلَى مَرَاضِي اَلرَّبِّ, وَصَارَتْ اَلنَّفْسُ حِينَئِذٍ
مُطْمَئِنَّةً فَفَنِيَتْ بِإِرَادَةِ مَوْلَاهَا عَنْ مَرَادِهَا وَهَوَاهَا.
يَا هَذَا اُعْبُدْ اَللَّهَ لِمُرَادِهِ
مِنْكَ لَا لِمُرَادِكَ مِنْهُ, فَمَنْ عَبَدَهُ لِمُرَادِهِ مِنْهُ فَهُوَ مِمَّنْ
يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ
أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ,
وَمَتَى قَوِيتِ اَلْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ لَمْ يُرِدْ صَاحِبُهَا إِلَّا مَا
يُرِيدُهُ مَوْلَاهُ.
وَفِي بَعْضِ اَلْكُتُبِ
اَلسَّالِفَةِ: (مَنْ أَحَبَّ اَللَّهَ لَمْ
يَكُنْ شَيْءٌ عِنْدَهُ آثَرَ مِنْ رِضَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ اَلدُّنْيَا لَمْ
يَكُنْ شَيْءٌ عِنْدَهُ آثَرَ مِنْ هَوَى نَفْسِهِ).
وَرَوَى اِبْنُ أَبِي اَلدُّنْيَا
بِإِسْنَادِهِ عَنْ اَلْحَسَنِ قَالَ: (مَا نَظَرْتُ بِبَصَرِي, وَلَا نَطَقْتُ
بِلِسَانِي، وَلَا بَطَشْتُ بِيَدِي, وَلَا نَهَضْتُ عَلَى قَدَمَي, حَتَّى
أَنْظُرَ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فَإِذَا كَانَتْ طَاعَةٌ تَقَدَّمْتُ،
وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةٌ تَأَخَّرْتُ).
هَذَا حَالُ خَوَاصِّ اَلْمُحِبِّين،
فَافْهَمُوا - رَحِمَكُمْ اَللَّهُ - هَذَا, فَإِنَّهُ مِنْ دَقَائِقِ أَسْرَارِ
اَلتَّوْحِيدِ اَلْغَامِضَةِ.
وَإِلَى هَذَا اَلْمَقَامِ أَشَارَ صلى الله
عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ لَمَّا قَدِمَ اَلْمَدِينَةَ حَيْثُ قَالَ:
«أَحِبُّوا
اَللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اِبْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ».
فَإِنَّ مَنْ اِمْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ
مَحَبَّةِ اَللَّهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَرَاغٌ لِشَيْءٍ مِنْ إِرَادَاتِ اَلنَّفْسِ
وَالْهَوَى، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اَلْقَائِلُ بِقَوْلِهِ:
أَرُوحُ وَقَــدْ خَــتَمْتَ عَلَى فُــؤَادِي
|
|
بِحُــبِّكَ أَنْ يَحُــلَّ بِــهِ سِـوَاكا
|
فَلَـوْ أَنِّــي اِسْـتَطَعْتُ غَضَضْـتُ طَـرْفِي
|
|
فَلَـمْ أَنْظُــرْ بِـهِ حَــتَّى أَرَاكـا
|
أُحِـبُّكَ لَا بِبَعْـضِــــي بَــلْ بكُـلِــي
|
|
وَإِنْ لَـمْ يُبْـقِ حُبُّـكَ لِي حِـرَاكـا
|
وَفِــي اَلْأَحْبَــابِ مَخْــصُوصٌ بِوَجْــدٍ
|
|
وَآخَــرُ يَـدَّعِي مَعَـهُ اِشْــتِرَاكا
|
إِذَا اِشْــتَبَكَـتْ دُمُـوعٌ فِــي خُـــدُودٍ
|
|
تَبَيَّـنَ مَـن بَكَــى مِمَّـن تَبَـاكَى
|
فَـأَمَّــا مَـنْ بَكَـى فَـيَـذُوبُ وَجْــداً
|
|
وَيَنْطِـقُ بِالْهَــوَى مَـنْ قَـدْ تَشَاكَى
|
مَتَى بَقِيَ لِلْمُحِبِّ مِنْ نَفْسِهِ
حَظٌّ فَمَا بِيَدِهِ مِنَ اَلْمَحَبَّةِ إِلَّا اَلدَّعْوَى, إِنَّمَا اَلْمُحِبُّ
مَنْ يَفْنَى عَنْ نَفْسِهِ كُلِّهُ، وَيَبْقَى بِحَبِيبِهِ,
«فَبِي
يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ».
اَلْقَلْبُ بَيْتُ اَلرَّبِّ: وَفِي
اَلْإِسْرَائِيلِيَّاتِ يَقُولُ اَللَّهُ: (مَا وَسِعَنِي سَمَائِي، وَلَا أَرْضِي،
وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي اَلْمُؤْمِنِ).
فَمَتَى كَانَ اَلْقَلْبُ فِيهِ غَيْرُ
اَللَّهِ، فَاَللَّهُ أَغْنَى اَلْأَغْنِيَاءِ عَنْ اَلشِّرْكِ، وَهُوَ لَا يَرْضَى
بِمُزَاحَمَةِ أَصْنَامِ اَلْهَوَى
اَلْحَقُّ - تَعَالَى- غَيُورٌ، يَغَارُ
عَلَى عَبْدِهِ اَلْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْكُنَ فِي قَلْبِهِ سِوَاهُ, وَأَنْ يَكُونَ
فِيهِ شَيْءٌ لَا يَرْضَاهُ
أَرَدْنَــــاكُمْ صِرْفاً فَلَمَّــا مَزَجْــتُمْ
بَعُـــدْتُمْ بِمِقْـــدَارِ اِلْتِفَـــاتِكُمْ عَنَّـــا
وَقُـلْنَـا لَكُـمْ لَا تُسْكِنُـوا اَلْقَلْـبَ غَيْـرَنَا
فَأَسْـكَنْتُـمْ اَلْأَغْيَــارَ مَـا أَنْتُــمْ مِنَّــا