صفحة جديدة 14
428 - وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد
الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يكثر الاختلاف إلى قبر النبي صلى
الله عليه وسلم قال له: ياهذا! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا
تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني».
فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
429 - وروي هذا المعنى عن علي بن الحسين
زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب، ذكره أبوعبد الله محمد بن عبد الواحد
المقدسي الحافظ في مختاره الذي هو أصح من صحيح الحاكم.
430 - وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي
قال: إذا دخلت فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
«لا
تتخذوا بيــــتي عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ حيث كنتم، فإن
صلاتكم تبلغني حيث كنتم».
431 - ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها:
«ولم
تصرفُ وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة».
إنما يدل على أنه يوم القيامة يتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به
الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة، كما كان أصحابه
يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا - لو
كانت الحكاية صحيحة - أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.
432 - ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي صلى
الله عليه وسلم / ولا سَنَّهُ لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم
بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن
ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا
الأحكام المعلومة بأدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام
رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم
يكن عن مالك قول يناقض هذا لعلم أنه لا يقول مثل هذا.
433 - ثم قال في الحكاية:
«استقبله واستشفع
به فيشفعك الله». والاستشفاع به معناه في
اللغة؛ أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه
يستشفعون به.
434 – ومنه الحديث الذي في السنن أن أعرابياً
قال: يارسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا فإنا
نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف
ذلك في وجوه أصحابه، وقال:
«ويحك
أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه».
435 – وذكر تمام الحديث فأنكر قوله:
«نستشفع
بالله عليك». ومعلوم أنه لا ينكر أن يُسأل
المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق، ولهذا
لم ينكر قوله: «نستشفع بك على الله»؛
فإنه هو الشافع المشفع.
436 – وهم – لو كانت الحكاية صحيحة – إنما يجيئون
إليه لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال في تمام الحكاية: (4: 64)
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ﴾ الآية، وهؤلاء إذا شرع
لهم أن يطلبوا منه الشافعة والاستغفار بعد موته فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم،
واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.
437 – وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما
يقال في ذلك:
«استشفعْ به فيشفعه الله فيك»
لا يقال: فيشفعك الله فيه وهذا معروف الكلام، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وسائر العلماء، يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه. فالمشفع الذي يشفعه
المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا
ليس هو الذي يشفع، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي
يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يارب شفعني، فيشفعه الله فيطلب من الله سبحانه أن
يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟.
438 – وأيضاً فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره
بعد موته وعند قبره ليس مشروعاً عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من
الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين:
439 – ذكروا حكاية عن العتبي أنه رأى أعرابيا أتى
قبره وقرأ هذه الآية، وأنه رأى في المنام أن الله غفر له.
وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب
المتبوعين، الذين يفتي الناس بأقوالهم، ومن ذكرها لم يذكر عليها دليلاً شرعياً.
440 – ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته
واستغفاره عند قبره مشروعاً، لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق
إليه من غيرهم، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك. وما أحسن ما قال مالك: لا يُصلح
آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. قال: ولم يبلغني عن أولِ هذه الأمة وصدرها أنهم
كانوا يفعلون ذلك. فمثل هذا الإمام كيف يُشرع ديناً لم يُنقل عن أحد من السلف،
ويأمر الأمة بأن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار بعد موت الأنبياء والصالحين
منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة؟.
441 – ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ
كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم:
اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به.
ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد
تُشفع به. من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم
يسمع كلامه ولا شفع له.
442 – وهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وعلماء الأمة /، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة، والشافع
هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه. وأما
الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا
استشفاعاً لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول.
443 – نعم هذا سؤال به، ودعاء به ليس هو
استشفاعاً به، ولكن هؤلاء لما غيروا اللغة – كما غيروا الشريعة – وسموا هذا
استشفاعاً – أي سؤالاً بالشافع – صاروا يقولون: استشفع به فيشفعك. أي يجيب سؤالك
به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة، وليس لفظهما من ألفاظ
مالك!.
444 – نعم قد يكون أصلها صحيحاً، ويكون مالك قد
نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً للسنة، كما كان عمرُ
ينهي عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به؛ من تعزيزه وتوقيره
ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به.
445 – ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا
يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعادتهم في الكلام وإلاّ حرف
الكلم عن مواضعه، فإن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ، ثم
يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة فيظن أن مراد الله أو رسوله أو
الصحابة بتلك الألفاظ مايريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله
والصحابة خلاف ذلك.
446 – وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام
والفقه والنحو والعامة وغيرهم.
وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على
معانٍ أُخَر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم،
ويقولون: إنا موافقون للأنبياء!.
447 – وهذا موجود في كلام كثير من الملاحدة
المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة، مثل من وضع
«المُحدث»
و «المخلوق»
و «المصنوع»
على ماهو معلول وإن كان [عنده] قديماً أزليا، ويسمى ذلك «الحدوث
الذاتي».
ثم يقول: نحن نقول إن العالم محدث، وهو مراده.
ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار ليس لغة أحد
من الأمم، وإنما المحدث عندهم ماكان بعد أن لم يكن.
448 – وكذلك يضعون لفظ
«الملائكة»
على ما يثبتونه من العقول والنفوس وقوى النفس.. ولفظ «الجن»
و«الشياطين»
على بعض قوى النفس.
ثم يقولون: نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء، وأقر
به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين.
449 – ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم
بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، مثل أن يعلم مرادهم بالعقل الأول وأنه مقارن عندهم
لرب العالمين أزلاً وأبداً، وأنه مبدع لكل ما سواه، أو بتوسطه حصل كل ما سواه.
450 – والعقل الفعال عندهم عنه يصدر كل ما تحت
فلك القمر، ويعلم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب كل
ما سوى الله، ولا رب كل ماتحت فلك القمر، ولا من هو قديم أزلي أبدي لم يزل ولا
يزال.
451 – ويعلم أن الحديث الذي يروى:
«أول
ماخلق الله العقل» حديث باطل عن النبي صلى الله
عليه وسلم، مع أنه لو كان حقاً لكان حجة عليهم، فإن لفظه «أول
ما خلق الله العقل» بنصب الأول على الظرفية
«فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال: أدبر، فأدبر.
فقال: وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم عليَّ منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك
العقاب»، وروي «لما
خلق الله العقل».
452 – فالحديث لو كان ثابتاً كان معناه أنه خاطب
العقل في أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبله غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا
كل المصنوعات.
453 – و
«العقل»
في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً، ويراد به القوة التي بها يُعقل. وعلوم وأعمال
تحصل بذلك، لا يراد بها قط في لغة جوهر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى
بلفظ العقل.
454 – مع أنا قد بينا في مواضع أخر فساد ما ذكروه
من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهي أمرهم فيه إلى
إثبات النفس التي تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات/ ما تجرده النفس من المعقولات
القائمة بها، فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق في هذا الباب.
455 – والمقصود هنا أن كثيراً من كلام الله
ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد في
كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره.
مثل ما ذكره في
«اللوح
المحفوظ» حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ
«القلم» حيث جعله
العقل الأول.
ولفظ
«الملكوت»
و«الجبروت»
و «الملك»
حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ «الشفاعة»
حيث جعل ذلك فيضاً يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدري، وسلك في
هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا كما قد بسط في موضع آخر.
456 – والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير
تدبر منه للغة الرسول صلى الله عليه وسلم كلفظ القديم؛ فإنه في لغة الرسول التي جاء
بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقاً بغيره، كقوله تعالى: (36: 39):
﴿حَتَّى
عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ وقوله تعالى
عن إخوة يوسف (12: 95): ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ
لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ وقوله تعالى (26:
75 – 76): ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأقْدَمُونَ﴾.
457 – وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو
عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقاً بعدم نفسه، ويجعلونه – إذا أريد به هذا –
من باب المجاز.
458 – ولفظ
«المحدث»
في لغة القرآن مقابل للفظ «القديم»
في القرآن. وكذلك لفظ «الكلمة»
في لغة القرآن والحديث وسائر لغات العرب إنما يراد به الجملة التامة كقوله صلى الله
عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن،
خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».
وقوله:
«إن
أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلال الله باطل».
ومنه قوله تعالى (18: 5):
﴿كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾،
وقوله تعالى (3: 64): ﴿قُلْ يَاأَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾
الآية، وقوله تعالى (9: 40): ﴿وَجَعَلَ
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾
وأمثال ذلك.
459 – ولا يوجد لفظ الكلام في لغة العرب إلا بهذا
المعنى، والنحاة اصطلحوا على أن يسموا الاسم وحده والفعل والحرف كلمة، ثم يقول:
بعضهم وقد يراد بالكلمة الكلام. فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب.
460 – وكذلك لفظ
«ذوي
الأرحام» في الكتاب والسنة يراد به الأقارب من
جهة الأبوين فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب،
ثم صار ذلك في اصطلاح الفقهاء اسماً لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن
هذا هو المراد بهذا اللفظ في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة. ونظائر هذا كثيرة.