صفحة جديدة 2
وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ النبي
مُحَمَّدٌ
صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ
أُمَّتُهُ.
وَلَه
صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ
شَفَاعَاتٍ:
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ في أَهْلِ الْمَوْقِفِ
حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛
آدَمُ، وَنُوحٌ،
وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى،
وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عن الشَّفَاعَةِ حَتَّى
تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ
الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ
لَهُ
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ
اسْتَحَقَّ
النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ
يَدْخُلَهَا،
وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا
أَن يَخْرُجَ مِنْهَا
وَيُخْرِجُ اللهُ تعالى مِنَ
النَّارِ أَقْوَاماً بِغِيرِ
شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِه ورَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى
فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ
لَهَا أَقْوَاماً فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
وَأَصْنَافُ مَا
تضمنته الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ
وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي
الْكُتُبِ
الْمُنَزَّلَةِ مِنَ
السَّمَاءِ، وَالآثَارة مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ
الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ
صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ
وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ من أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ
وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى
دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ
تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ:
فَالدَّرَجَةُ الأُولَى:
الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِم بالخلق، وهم عَامِلُونَ
بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً
وَأَبَداً، وَعَلِمَ
جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ
الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ،
ثُمَّ كَتَبَ اللهُ تعالى فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلائق،
فَأَوَّلُ
مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا
أَكْتُبُ؟ قَال:
اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ
لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ
الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ﴾[الحج:70].
وَقَال:
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحديد:22]
وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ
سبحانه وتعالى يَكُونُ فِي
مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً: فَقَدْ كَتَبَ فِي
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ، وإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ
الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكاً، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ
كَلِمَاتٍ، فيقال له: اكتب رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَم
سَعِيدٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَهَذَا التقدير قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ
الْقَدَرِيَّةِ قَدِيماً، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ
وَأَمَّا
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ:
فَهِيَ مَشِيئَةُ الله النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ
الشَّامِلَةُ، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ
يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَما فِي
الأَرْضِ مِنْ
حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ إلاَّ
بِمَشِيئَةِ الله سبحانه وتعالى، لاَ يَكُونُ فِي
مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سبحانه وتعالى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
مِنَ
الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأرض
ولا في السماء إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ
رَبَّ
سِوَاهُ
وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ
رُسُلِهِ،
وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَالْمُحْسِنِينَ،
وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى
لِعِبَادِهُ
الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ
الْفَسَادَ
وَالْعِبَادُ فَاعِلُون
حَقِيقَةً، وَالله
خَالِقَ أفْعَالَهُم
وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ،
وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ
وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ
خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تعالى:
﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَسْتَقِيمَ﴾[التكوير:28]
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[التكوير:29]
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا
عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النبي صلى الله عليه وسلم: مَجُوس
هَذِهِ
الأُمَّةِ.
وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا
الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ
الله
وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا
وَمَصَالِحَهَا
وَمِنْ أُصُولِ
أهل السُّنة والجماعة:
أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَل، قوْلُ الْقَلْبِ
وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، وَأَنَّ الإيمَانَ
يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ
الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ؛ بَلِ
الأُخُوَّةُ
الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ
الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة:178]
وَقَالَ سبحانه:
﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ
فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات:9]
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾[الحجرات:10].
وَلاَ يَسْلُبُونَ
الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمِ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي
النَّار كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ؛ بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ
فِي اسْمِ
الإيمَان كما في قَوْلِهِ:
﴿فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾[النساء:92]
وَقَدْ لاَ
يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾[الأنفال:2].
وَقَوْلُ النبي
صلى الله عليه وسلم:
«لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ
السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ
يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ
النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ»..
وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ
بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ
يُسْلَبُ
مُطْلَقَ الاسْمِ.