صفحة جديدة 1
وليس لفظ (الإيمان) مُرادفاً للفظ
(التصديق) كما تَظُنّه طائفة من الناس؛ فإن التصديق يُسْتعمَل في كل خبر؛ فيقال
لِمَنْ أخبر بالأمور المشهودة- مثل قوله: (الواحد نصف الاثنين، والسماء فوق الأرض)-
مُجيباً: (صَدَقْتَ وَصَدَّقنا بذلك)؛ ولا يقال: (آمنا لك ولا آمنا بهذا) حتى يكون
الْمُخْبَر به من الأمور الغائبة، فيقال للْمُخْبِر: (آمنا له)، وللْمُخْبَر به:
(آمنا به)..
كما قال إخوة يوسف:
﴿وَمَا
أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾[يوسف:17]
أي (بِمُقِر لنا، ومُصَدِّق لنا)؛ لأنهم أخبروه عن غائب..
ومنه قولـه تعالى:
﴿قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ﴾[الشعراء:111]..
وقولـه تعالى:
﴿يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[التوبة:61]..
وقولـه تعالى:
﴿أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾[المؤمنون:47]..
وقولـه تعالى:
﴿وَإِنْ
لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾[الدخان:21]..
وقولـه تعالى:﴿فَمَا
آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾[يونس:83]
أي أقر له.
وذلك أن الإيمان يُفَارِق التصديق لفظاً ومعنى.
فإنه أيضاً يقال: (صَدَّقْتُه) فَيَتَعَدّى بنفسه إلى الْمُصَدَّق، ولا يقال:
(آمَنْتُه) إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل يُقال: (آمَنْتُ له)..
وإذا ساغ أن يقال: (ما أنت بِمُصَدِّق لفلان) كما يقال: (هل أنت مُصَدِّق له؟)؛ لأن
الفعل المتعدي بنفسه إذا قُدِّمَ مفعوله عليه أو كان العامل اسم فاعل- ونحوه مما
يضعف عن الفعل- فقد يعدونه باللام تقويةً له؛ كما يقال: (عرفت هذا وأنا به عارف)،
و(ضربت هذا وأنا له ضارب)، و(سمعتُ هذا ورأيته وأنا له سامِع وراءٍ)، كذلك يقال:
(صَدَّقْتُه وأنا له مُصَدِّق)، ولا يقال: (صَدقت له به)..
وهذا خلاف (آمن)؛ فإنه لا يقال إذا أردت التصديق: (آمنته) كما يقال: (أقررت له)؛
ومنه: قولـه: (آمنت له)، كما يقال: (أقررت له) فهذا فرق في اللفظ.
والفرق الثاني: ما تَقَدَّم من أن الإيمان لا يُسْتَعمَل في جميع الأخبار، بل في
الإخبار عن الأمور الغائبة ونحوها مما يدخلها الريب؛ فإذا أَقَرّ بها الْمُستمِع
قيل: (آمن) بخلاف (لفظ التصديق)؛ فإنه عام مُتَنَاوِل لجميع الأخبار.
وأما المعنى: فإن (الإيمان) مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن (لفظ
الإقرار) مأخوذ من (قَرَّ- يُقِرّ) وهو قريب من (آمن - يأمن)..
لكن الصادق يُطْمَأَنُّ إلى خَبَرِه، والكاذب بخلاف ذلك؛ كما يقال: (الصدق طمأنينة،
والكذب ريبة)؛ فالمؤمن داخل في الأمن، كما أن الْمُقِرّ داخل في (القرار)
الإقرار.
ولفظ (الإقرار) يتضمن الالتزام؛ ثم إنه يكون على وجهين:
أحدهما: الإخبار؛ وهو من هذا الوجه كـ (لفظ التصديق، والشهادة ونحوهما)؛ وهذا معنى
الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام؛ كما في قولـه تعالى:
﴿أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾[آل
عمران:81]،
وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال:
﴿وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾[آل
عمران:81]،
فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول..
وكذلك لفظ (الإيمان) فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ (التصديق) المجرد..
فمَنْ أَخْبَرَ الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى الْمُخْبِر لا يقال فيه: (آمن له)،
بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى الْمُخْبِر..
والْمُخْبِر قد يَتَضَمّن خَبَرُه طاعةَ الْمُستمِع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد
الطمأنينة إلى صِدْقِه؛ فإذا تَضَمّن طاعة الْمُستمِع لم يكن مؤمناً للْمُخبِر إلا
بالتزام طاعته مع تصديقه؛ بل قد اسْتُعمِل لفظ الكفر-
المقابِل للإيمان- في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد..
فقياس ذلك: أن يُسْتعمل (لفظ الإيمان) كما استُعمِل (لفظ الإقرار) في نفس التزام
الطاعة والانقياد؛ فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأَبَى واستكبر وكان من
الكافرين.
وأيضاً فـ (لفظ التصديق) إنما يُستعمَل في جنس الأخبار؛ وأنّ (التصديق): إخبار
بِصِدْق الْمُخْبِر، و(التكذيب): إخبار بِكَذِب الْمُخْبِر؛ فقد يَصْدُق الرجل
الكاذب تارةً، والصادق أخرى، فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن
الخبر..
فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تُعْلَم بدون خبر لا يكاد يُسْتعمَل فيها لفظ
(التصديق والتكذيب) إن لم يُقَدَّر مُخْبِر عنها، بخلاف الإيمان والإقرار والإنكار
والجحود ونحو ذلك؛ فإنه يتناول الحقائق والإخبار عن الحقائق.
وأيضاً فالذوات التي تُحَبُّ تارةً وتُبْغَض أخرى، وتُوالَى تارةً وتُعَادَى أخرى،
وتُطَاع تارةً وتُعْصَى أخرى، ويُذَلّ لها تارةً ويُسْتَكْبَر عنها أخرى تختص هذه
المعاني فيها بـ (لفظ الإيمان والكفر ونحو ذلك)..
وأما (لفظ التصديق والصدق ونحو ذلك) فيتعلق بمتعلقها كالحب والبُغْض فيقال: (حب
صادق، وبغض صادق)..
فكما أن الصدق والكذب في إثبات الحقائق ونَفْيها مُتَعَلِّق بالْمُخبِر المُنافي
والْمُثْبِت دون الحقيقة ابتداءً فكذلك في الحب والبُغض ونحو ذلك يتعلق بالحب
والبُغض دون الحقيقة ابتداءً، بخلاف (لفظ الإيمان والكفر)؛ فإنه يتناول الذوات بلا
واسطةٍ (إقرارا أو إنكاراً أو حُبّاً أو بُغْضاً أو طمأنينةً أو نُفوراً..
ويشهد لهذا الدعاء المأثور المشهور عند استلام الحجر «اللهم إيماناً بك، وتصديقاً
بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسُنّة نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم»؛ فقال:
«إيماناً بك» ولم يَقُل: (تصديقاً بك)، كما قال: (تصديقاً بكتابك)..
وقال تعالى عن مريم:
﴿وَصَدَّقَتْ
بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾[التحريم:12]؛
فَجَعَلَ التصديق بالكلمات والكتب..
ومنه: الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «تَكَفَّل الله لِمَنْ
خَرَجَ في سبيل الله لا يُخْرِجه إلا إيمان بي، وتصديق كلماتي»..
ويُرْوَى: «إيمان بي، وتصديق برسلي».
ويُرْوَى: «لا يُخْرِجه إلا جهاد في سبيل الله، وتصديق كلماته»..
ففي جميع الألفاظ: جَعَل (لفظ التصديق) بالكلمات والرسل.
وكذلك قولـه في الحديث الذي في الصحيح «ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منازل عالية
في الجنة فقيل له: يا رسول الله! تلك منازل لا يبلغها إلا الأنبياء فقال: «بلى
والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصَدّقوا المرسلين».
وما يُحصَى الآن الاستعمال المعروف في كلام السلف (صَدَّقتُ بالله)، أو (فلان
يُصَدِّق بالله) أو (صَدَّق بالله) ونحو ذلك ،كما جاء (فلان يؤمن وآمن بالله)،
و(إيماناً بالله)، و(نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله)، و(نؤمن بالله وحده) ونحو
ذلك.
فإن القرآن والحديث وكلام الخاصة والعامة مملوء من لفظ (الإيمان بالله)، و(آمن
بالله)، و(يؤمن بالله)، (فآمنوا بالله)، و(يا أيها الذين آمنوا)، وما أعلم قيل:
(التصديق بالله)، أو (أَنْ صَدِّقوا بالله)، أو (يا أيها النبي صَدِّق بالله) ونحو
ذلك..، اللهم إلا أن يكون في ذلك شيء لا يحضرني الساعة- وما أظنه-.
ولفظ (الإيمان) يُستعمَل في الخبر أيضاً كما يقال:
﴿كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ﴾[البقرة:285]
أي أَقَرَّ له، والرسول يُؤمِن له من جهة أنه مُخْبِر، ويُؤمَن به من جهة أن رسالته
مما أُخْبِرَ بها، كما يؤمن بالله وملائكته وكتبه..
فـ (الإيمان) مُتضمن للإقرار للرسول والإقرار بما أَخْبَرَ به، والكُفْر تارةً يكون
بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به؛ وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما
أَخْبَر به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أَخْبَر به، والأصل في ذلك: هو
الإخبار بالله وبأسمائه؛ ولهذا كان جَحْد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جَحْد غيره،
وإن كان الرسول أخبر بكليهما، ثم مجرد تصديقه في الخبر والعلم بثبوت ما أخبر به إذا
لم يكن معه طاعة لأمره لا باطناً ولا ظاهراً ولا محبةٌ لله ولا تعظيم له لم يكن ذلك
إيماناً..
وكُفْر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم؛ فإن
إبليس لم يُخْبره أحد بِخَبر، بل أَمَرَه الله بالسجود لآدم فأَبَى واستكبر وكان من
الكافرين، فكُفْره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك؛ لا لأجل تكذيب.
وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلماً وعُلُواً، وقال له موسى: ﴿لَقَدْ
عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[الإسراء:102]..