صفحة جديدة 1
الأصل الثاني:
أن شُعَب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف؛ فإذا قَوِيَ ما في
القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أَوْجَبَ بُغْض أعداء الله؛
كما قال تعالى:
﴿وَلَوْ
كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ﴾[المائدة:81].
وقال تعالى:
﴿لا
تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾[المجادلة:22].
وقد يحصل من الرجال نوع من موادتهم لِرَحِمٍ أو حاجة فيكون ذنباً ينقص به إيمانه
ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لَمّا كاتب المشركين ببعض أخبار
النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه:
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ
الْحَقِّ﴾[الممتحنة:1].
وكما حصل من سعد بن عُبادة لَمّا انتصر لابن أُبَيّ في قصة الإفك؛ فقال لسعد بن
معاذ: (كذبت لعَمْر الله لا تقتله ولا تقدر على قَتْله)؛ قالت أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية..
ولهذه الشُّبهة سَمّى عمر (حاطباً) (منافقاً)؛ فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق
هذا المنافق، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدراً»؛ فكان عمر
مُتَأَوِّلاً في تسميته منافقاً للشُّبْهة (للشُّعبة) التي فعلها.
وكذلك قول أُسَيْد بن حُضَيْر لسعد بن عُبادة: ( كذبت لعَمْر الله لنَقْتُلنّه،
إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين)..
هو من هذا الباب.
وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدُّخْشُم: (منافق) وإن كان قال ذلك لما
رأى فيه نوع معاشرة ومودة للمنافقين.
ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً؛ بل فيهم المنافق المحض، وفيهم مَنْ
فيه إيمان ونفاق، وفيهم مَنْ إيمانه غالِب وفيه شُعْبة من النفاق.
وكان كثير ذنوبهم بحسب ظهور الإيمان، ولَمّا قَوِي الإيمان وَظهور الإيمان وقوته
عام تبوك صاروا يتعاقبون من النفاق على ما لم يكونوا يتعاقبون عليه قبل ذلك..
ومن هذا الباب ما يُرْوَى عن الحسن البصري ونحوه من السلف: أنهم يُسَمّون الفساق
منافقين؛ فجعل أهل المقالات هذا القول مُخالِفاً لأقوال للجمهور؛ إذا حَكَوا
تَنَازُع الناس في الفاسق الْمِلِّي هل هو كافر؟ أو فاسق ليس معه إيمان؟ أو مؤمن
كامل الإيمان؟ أو مؤمن بما معه من الإيمان فاسق بما معه من الفسق؟ أو منافق؟..
والحسن- رحمة الله عليه- لم يَقُل ما خرج به عن الجماعة، لكن سمّاه منافقاً على
الوجه الذي ذكرناه (والنفاق كالكُفر؛ نفاق دون نفاق)..
ولهذا كثيراً ما يقال: كُفْر ينقل عن الملة وكُفْر لا ينقل، ونفاق أكبر ونفاق أصغر
كما يقال: الشرك شِرْكان: شِرْك أكبر، وشِرْك أصغر..
وفي صحيح أبي حاتم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الشرك في هذه
الأمة أخفى من دبيب النمل»، فقال أبو بكر: يا رسول الله! كيف ننجو منه وهو أخفى من
دبيب النمل؟ فقال: «ألا أُعَلِّمُك كلمة إذا قُلْتَها نجوت من دِقّه وَجِلِّه؟ قل:
اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما
لا أعلم».
وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حلف بغير الله فقد
أشرك» قال الترمذي: حديث حسن.
وبهذا تَبَيّن أن الشارع ينفي اسم الإيمان عن الشخص لانتفاء كماله الواجب وإن كان
معه بعض أجزائه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن؛
ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن؛ ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
ومنه قولـه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَشّنا فليس منا، ومَنْ حَمَل علينا السلاح
فليس منا».
فإن صيغة (أنا)، و(نحن)، و(نحو ذلك من ضمير المتكلم في مثل هذا) يتناول النبي صلى
الله عليه وسلم والمؤمنين معه الإيمان المطلق الذي يستحقون به الثواب بلا عقاب..
ومن هنا قيل: إن الفاسق الملي يجوز أن يقال: (هو مؤمن) باعتبار، ويجوز أن يقال:
(ليس مؤمناً) باعتبار..
وبهذا تَبَيّن أن الرجل قد يكون مسلماً لا مؤمناً ولا منافقاً مطلقاً، بل يكون معه
أصل الإيمان دون حقيقته الواجبة..
ولهذا أنكر أحمد وغيره من الأئمة على مَنْ فَسّر قولـه صلى الله عليه وسلم: «ليس
منا» فقال: أي (ليس مثلنا) أو (ليس من خيارنا)؛ وقال هذا تفسير المرجئة، وقالوا: لو
لم يفعل هذه الكبيرة كان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك تفسير الخوارج والمعتزلة (بأنه يَخْرج من الإيمان بالكلية ويستحق الخلود في
النار)؛ تأويل منكر كما تقدم..
فلا هذا ولا هذا.
ومما يُبَيِّن ذلك: أنه من المعلوم أن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حُبّه، ومعرفة
الْمُعَظَّم تقتضي تعظيمه، ومعرفة الْمَخُوْف تقتضي خَوْفه؛ فَنَفْس العلم والتصديق
بالله وما له من الأسماء الحسنى والصفات العُلى تُوجِب محبة القلب له وتعظيمه
وخشيته؛ وذلك يُوجِب إرادة طاعته وكراهية معصيته.
والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه؛ فالعبد إذا
كان مُريداً للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صَلّى، فإذا لم يُصَلِّ مع القُدرة
دَلّ ذلك على ضَعْف الإرادة..
وبهذا يزول الاشتباه في هذا المقام؛ فإن الناس تَنَازَعوا في الإرادة بلا عمل؛
هل يحصل بها عقاب؟ وكَثُر النزاع في ذلك...
فمَنْ قال: (لا يُعاقَب) احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين: «إن
الله تَجَاوَز لأُمّتي عمّا حَدَّثَت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به»..
وبما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «إذا هَمّ العبد بسيئة لم تُكْتَب عليه، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيئة
واحدة، وإذا هَمَّ بحسنة كُتِبَت له حسنة كاملة، فإن عَمِلَها كُتِبَت له عَشْر
حسنات إلى سبعمائة ضعف»، وفي رواية: «فإنْ تَرَكَها فاكتبوها له حسنة؛ فإنما
تَرْكها من جرائي».
ومَنْ قال: (يُعَاقَب) احتج بما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله! هذا
القاتل، فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصاً على قَتْل صاحبه»..
وبالحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي كبشة الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى
الله عليه وسلم: «في الرجلين اللذين أُوتِيَ أحدهما عِلماً ومالاً فهو ينفقه في
طاعة الله، ورجل أُوتِي علماً ولم يُؤْتَ مالاً فقال: لو أن لي مِثْل مال فلان
لعملت فيه مِثْل ما يعمل فلان قال: فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم
يُؤته عِلماً فهو ينفقه في معصية الله، ورجل لم يُؤته الله علماً ولا مالاً فقال:
لو أن لي مِثْل مال فلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان؛ فهما في الوزر سواء».
والفصل في ذلك أن يقال: فَرْقٌ بين الهَمِّ والإرادة؛ فالْهَمُّ قد لا يقترن به شيء
من الأعمال الظاهرة فهذا لا عقوبة فيه بحال، بل إن تَرَكَه لله- كما تَرَك يوسف
هَمَّهُ- أُثِيْبَ على ذلك كما أثيب يوسف؛ ولهذا قال أحمد: الهَمُّ هَمَّان: (هَمّ
خَطَرَات، وَهَمّ إصرار)، ولهذا كان الذي دَلّ عليه القرآن أن يوسف لم يكن له في
هذه القصة ذنب أصلاً، بل صَرَفَ الله عنه السوء والفحشاء، إنه من عباده
الْمُخْلَصين مع ما حصل من المراودة والكذب والاستعانة عليه بالنسوة وحَبْسه وغير
ذلك من الأسباب التي لا يكاد بشر يصبر معها عن الفاحشة، ولكن يوسف اتقى الله
وصَبَرَ فأصابه الله برحمته في الدنيا،
﴿وَلَأَجْرُ
الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾[يوسف:57].
وأما الإرادة الجازمة: فلا بد أن يقترن بها مع القدرة فِعْل الْمَقدور ولو بنظرة أو
حركة رأس أو لفظة أو خَطْرة أو تحريك بدن؛ وبهذا يظهر معنى قولـه صلى الله عليه
وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»؛ فإن المقتول أراد
قَتْل صاحبه فعَمِلَ ما يقدر عليه من القتال وعَجزَ عن حصول المراد..
وكذلك الذي قال: «لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان» فإنه أراد
فَعَمِلَ ما يقدر عليه- وهو الكلام- ولم يقدر على غير ذلك..
ولهذا كان «مَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار مَنْ اتَّبَعَه من غير أن يَنقص
من أوزارهم شيئاً»؛ لأنه أراد ضلالهم ففَعَلَ ما يقدر عليه من دعائهم؛ إذ لا يقدر
إلا على ذلك.
وإذا تبين هذا في الإرادة والعمل فالتصديق الذي في القلب وعِلْمه يقتضي عمل القلب
كما يقتضي الحِسّ الحركة الإرادية، لأن النَّفْس فيها قوتان:
- قوة الشعور بالملائِم والمنافي، والإحساس بذلك، والعمل والتصديق به.
- وقوة الحب للملائِم، والبُغض للمنافي، والحركة عن الحس بالخوف والرجاء والموالاة
والمعاداة.
وإدراك الملائم يُوجِب اللذة والفرح والسرور، وإدراك المنافي يُوجب الألم والغَمّ..
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يُهَوّدانه،
أو يُنَصِّرَانه، أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها
من جدعاء»؛ فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله تصديقاً به وديناً له، لكن يَعْرِض
لها ما يُفْسدها..
ومعرفة الحق تقتضي محبته، ومعرفة الباطل تقتضي بُغضه؛ لما في الفطرة من حُب الحق
وبُغْض الباطل، لكن قد يَعرض لها ما يُفسدها: إما من الشُّبُهات التي تصدها عن
التصديق بالحق، وإما من الشَّهَوات التي تصدها عن اتِّبَاعه؛ ولهذا أَمَرَنا الله
أن نقول في الصلاة:
﴿اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الفاتحة:6]
﴿صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة:7].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون»؛ لأن اليهود
يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ولا يَتّبعونه لما فيهم من الْكِبْر والحسد الذي
يُوجِب بُغْض الحق ومعاداته، والنصارى لهم عبادة وفي قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية
ابتدعوها لكن بلا علم؛ فَهُم ضُلّال؛ هؤلاء لهم معرفة بلا قَصْد صحيح، وهؤلاء لهم
قَصْد في الخير بلا معرفة به.
وينضم إلى ذلك الظن واتباع الهوى؛ فلا يبقى في الحقيقة لهم معرفة نافعة ولا قَصْد
نافع، بل يكونون كما قال تعالى عن مشركي أهل الكتاب:
﴿وَقَالُوا
لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك:10]..
وقال تعالى:
﴿وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ﴾[الأعراف:179]..
فالإيمان الذي في القلب لا يكون إيماناً بمجرد ظن تصديق ليس معه عمل القلب،
ومُوجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك..
كما أنه لا يكون إيماناً بمجرد ظن وهوى؛ بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب وعمل
القلب..