صفحة جديدة 2
فالذي يقال هنا أحد أمرين:
- إما أن يقال: الاستكبار والإباء والحسد ونحو ذلك مما كُفِر به مُستلزم
لعدم العلم والتصديق الذي هو الإيمان، وإلا فمَنْ كان عِلْمه وتصديقه تاماً أوجب
استسلامه وطاعته مع القُدرة، كما أن الإرادة الجازمة تستلزم وجود المراد مع القدرة؛
فعُلِم أن الْمُراد إذا لم
يوجد مع القُدرة دلّ على أنّ ما في القلب هِمّة ولا إرادة؛ فكذلك إذا لم يوجد مُوجب
التصديق والعلم من حُب القلب وانقياده دل على أن الحاصل في القلب ليس بتصديق ولا
علم بل هناك شُبْهَة ورَيْب، كما يقول ذلك طوائف من الناس؛ وهو أصل قول: جهم،
والصالحي، والأشعري في المشهور عنه، وأكثر أصحابه كالقاضي أبي بكر ومَنْ اتبعه
ممَّن يجعل الأعمال الباطنة والظاهرة من موجبات الإيمان لا من نفسه، ويجعل ما ينتفي
الإيمان بانتفائه من لوازم التصديق لا يُتَصَوَّر عنده تصديق باطن مع كُفْرٍ قَط.
- أو أن يقال: قد يحصل في القلب عِلْم بالحق وتصديق به ولكن ما في القلب من
الحسد والكِبْر ونحو ذلك مانع من استسلام القلب وانقياده ومحبته، وليس هذا كالإرادة
مع العمل؛ لأن الإرادة مع القدرة مُستلزمة للمراد، وليس العلم بالحق والتصديق به مع
القُدرة على العمل بموجِب ذلك العمل؛ بل لا بد مع ذلك من إرادة الحق والحب له.
فإذا قال القائل: (القدرة التامة بدون الإرادة الجازمة مُستلزمة لوجود الْمُراد
المقدور، مُوجِبة لحصول المقدور) لم يكن مُصيباً؛ بل لا بد من الإرادة.
وبهذا يتبين خطأ مَنْ قال: (إن مجرد عِلْم الله عز وجل بالمخلوقات مُوجِب لوجودها)
كما يقول ذلك مَنْ يقولـه من أهل الفلسفة..
كما يُغَلِّط الناس مَنْ يقول: (إن مجرد إرادة الممكنات بدون القدرة مُوجِب
وجودها)، وكما خَطَّأوا مَنْ قال: (إن مجرد القدرة كافية)؛ بل لا بد من العلم
والقدرة والإرادة في وجود المقدور والمراد، والإرادة مُسْتلزمة لِتَصَوِّر المراد
والعلم به.
والعلم والإرادة والقُدرة ونحو ذلك وإن كان قد يقال: (إنها متلازمة في الحي) أو (أن
الحياة مستلزمة لهذه الصفات) أو (أن بعض الصفات مشروط بالبعض) فلا ريب أنه ليس كل
معلوم مُراداً محبوباً ولا مقدوراً، ولا كُل مقدور مُراداً محبوباً، وإذا كان كذلك
لم يلزم من كون الشيء معلوماً مُصَدَّقاً به أن يكون محبوباً معبوداً؛ بل لا بد من
العلم، وَأَمْر آخَر: به يكون هذا مُحِباً وهذا محبوباً.
فقول (مَنْ جَعَل مجرد العلم والتصديق في العبد هو الإيمان، وأنه مُوجِبٌ لأعمال
القلب، فإذا انتفت دلّ على انتفاء العلم) بمنزلة مَنْ يقول: (مجرد علم الله بنظام
العالم مُوجِب لوجوده بدون وجود إرادة منه)، وهو شبيه بقول المتفلسفة: (إن سَعَادة
النفس في مجرد أن تعلم الحقائق)، ولم يقْرِنوا ذلك بحُب الله تعالى وعبادته التي لا
تتم السعادة إلا به، وهو نظير مَنْ يقول: (كمال الجسم أو النفس في الحس من غير
اقتران الحركة الإرادية به) يقول: (اللذة في مجرد الإدراك والشعور)؛ وهذا غلط
باتفاق العقلاء؛ بل لا بد من إدراك الملائِم، والملائَمة لا تكون إلا بمحبة بين
الْمُدرِك والْمُدْرَك، وتلك المحبة والموافقة والملائَمة ليست نفس إدراكه والشعور
به.
وقد قال كثير من الناس من الفلاسفة والأطباء ومَنْ اتّبعهم: (إن اللذة إدراك
الْمُلائِم) وهذا تقصير منهم؛ بل اللذة حال يعقب إدراك الملائِم؛ كالإنسان الذي يحب
الحلو ويشتهيه فيُدركه بالذوق والأَكْل، فليست اللذة مجرد ذوقِه بل أَمْر يجده من
نفسه، يحصل مع الذوق..
فلا بد أولاً من أمرين، وآخراً من أمرين:
لا بد أولاً: من شعور بالمحبوب، ومحبة له؛ فما لا شعور به لا يُتَصَوَّر أن
يُشْتَهى، وما يشعر به وليس في النَّفْس محبةً له لا يُشْتهى، ثم إذا حصل إدراكه
بالمحبوب نفسه حصل عُقَيْب ذلك اللذة والفرح مع ذلك..
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المأثور: «اللهم إني أسألك لذة النظر
إلى وجهك والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مُضِرّة ولا فتنة مُضِلّة».
وفي الحديث الصحيح: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ نادى مُنادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم
عند الله موعداً يريد أن يُنجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبَيِّض وجوهنا،
ويُثَقِّل موازيننا، ويُدخلنا الجنة، ويُجِرْنا من النار؟ قال: فيَكْشِف الحجاب
فينظرون إليه؛ فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه» رواه مسلم وغيره؛ فاللذة
مقرونة بالنظر إليه، ولا أَحَبّ إليهم من النظر إليه لِمَا يَقْتَرن بذلك من اللذة؛
لا أن نفس النظر هو اللذة.
وفي الجملة: فلا بد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله
ورسوله وحُب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البُغض لله ولرسوله، ومعاداة الله
ورسوله ليس إيماناً باتفاق المسلمين..
وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب إلا إذا كان القلب سليماً من المعارِض كالحسد
والكِبْر؛ لأن النَّفْس مفطورة على حُب الحق وهو الذي يلائمها، ولا شيء
أحب إلى القلوب السليمة من الله؛ وهذا هو الحنيفية مِلة إبراهيم عليه السلام الذي
اتخذه الله خليلاً..
وقد قال تعالى:
﴿يَوْمَ
لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾[الشعراء:88]
﴿إِلَّا
مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[الشعراء:89]
فليس مجرد العلم موجِباً لحُب المعلوم إن لم يكن في النَّفْس قوة أخرى تُلائِم
المعلوم، وهذه القوة موجودة في النَّفس، وكل من القوتين تَقْوَى بالأُخرى؛ فالعلم
يَقْوَى بالعمل، والعمل يَقْوَى بالعلم..
فمَنْ عَرَف الله وقلبه سليم أحبه، وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له، وكلما ازداد
حبه له ازداد ذِكْره له ومعرفته بأسمائه وصفاته..
فإن قوة الحب تُوجِب كثرة ذِكْر المحبوب، كما أن
البُغض يُوجِب الإعراض عن ذِكْر الْمُبْغَض، فمَنْ عَادَى الله ورسوله وَحَاد الله
ورسوله كان ذلك مُقْتضياً لإعراضه عن ذِكْر الله ورسوله بالخير، وعن ذِكْر ما
يُوجِب المحبة فيضعف علمه به حتى قد ينساه؛ كما قال تعالى:
﴿وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾[الحشر:19]..
وقال تعالى:
﴿وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[الكهف:28]..
وقد يحصل مع ذلك تصديق وعلم مع بُغْض ومُعاداة لكن تصديق ضعيف وعلم ضعيف، ولكن لولا
البُغْض والْمُعاداة لأوجب ذلك من محبة الله ورسوله ما يصير به مؤمناً..
فما مِنْ شرط الإيمان بالله تعالى وجود العلم التام؛ ولهذا كان الصواب: أن الجهل
ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافراً إذا كان مُقِرّاً بما جاء به الرسول
صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه ما يُوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كُفْره إذا لم
يعلمه، لحديث (كحديث) الذي أَمَر أهله بتحريقه ثم تذريته..
بل العلماء بالله يتفاضلون في العلم به؛ ولهذا يُوصَف مَنْ لم يعمل بعِلمه بالجهل
وعدم العلم..
قال تعالى:
﴿إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾[النساء:17]؛
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية فقالوا لي: كل مَنْ عصى الله فهو
جاهل، وكل مَنْ تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.
ومنه قول ابن مسعود: (كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً).
وقيل للشعبي: أيها العالم!
فقال: العالِم مَنْ يخشى الله، وقال: قد قال تعالى:
﴿إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر:28].
وقال أبو حيان التيمي: العلماء ثلاثة:
- عالم بالله وعالم بأمر الله.
- وعالم بالله ليس عالماً بأمر الله.
- وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله.
فالعالم بالله: الذي يخشاه.
والعالم بأمر الله: الذي يعلم حدوده وفرائضه، وقد قال تعالى:
﴿إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر:28]؛
وهذا يدل على أن كل مَنْ خَشِي الله فهو عالم- وهو حق-، ولا يدل على أن كل عالم
يخشاه..
لكن لَمّا كان العلم به موجِباً للخشية عند عدم الْمُعارَضة (الْمُعارِض)
كان عدمه دليلاً على ضَعْف الأصل؛ إذ لو قَوِي لَدَفَعَ الْمُعارِض..
وهكذا لفظ العقل؛ يُراد به الغريزة التي بها يُعْلَم، ويُراد بها أنواعٌ من العلم،
ويُراد به العمل بُموجِب ذلك العلم..
وكذلك لفظ الجهل يعبر به عن عدم العلم ويعبر به عن عدم العمل بموجب العلم..
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يَجْهَل؛
فإن امرؤ شاتَمَه أو قَاتَلَه فليَقُل: إني امرؤ صائم»؛ والجهل هنا: هو الكلام
الباطل بمنزلة الجهل الْمُرَكَّب..
ومنه قول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا
|
|
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
|
ومن هذا سُمِّيَت الجاهلية جاهليةً، وهي متضمنة لعدم العلم، أو لعدم العمل به..
ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» لما سَابّ
رجلاً وَعَيَّره بِأَمّه.
إذ قال تعالى:
﴿إِذْ
جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[الفتح:26]..
فإن الغضب والحمية يحمل المرء على فِعْل ما يضره وتَرْك ما ينفعه؛ وهذا من الجهل
الذي هو عمل بخلاف العلم، حتى يُقْدِم المرء على فِعْل ما يعلم أنه يضره وتَرْك ما
يعلم أنه ينفعه؛ لِمَا في نفسه من البُغْض والْمُعاداة لأشخاص وأفعال، وهو في هذه
الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية، لكنه لِمَا في نفسه
من بُغْض وحَسَد غَلَبَ مُوجَب ذلك لِمُوجَب العلم، فَدَلّ على ضَعْف العلم لعدم
مُوجَبِه ومُقتضاه، ولكن ذلك الْمُوجَب والنتيجة لا يوجد عنه وحده، بل عنه وعما في
النفس من حب ما ينفعها وبُغْض ما يضرها، فإذا حَصَل لها مرض فَفَسَدت به أَحَبّت ما
يضرها وأبغضت ما ينفعها؛ فتصير النَّفس كالمريض الذي يتناول
ما يضره لشهوةِ نفسه له مع علمه أنه يضره..
قلت: هذا معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يُحب البصر النافذ عند
وُرُود الشُّبُهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» رواه البيهقي مُرْسَلًا..