السرد التاريخي لانتشار القراءات في الأمصار وانحسارها منها
على أهمية هذا الموضوع قل من تطرق له لبيان
متى دخلت رواية إمام معين لبلد معين
ثم متى حل غيرها محلها إلى يومنا هذا
والذي توصلت إليه من خلال النقول التي تجمعت لديّ حول السرد التاريخي لانتشار القراءات في الأمصار وانحسارها منها ما يلي :
1) إلى عصر الإمام ابن مجاهد الملقب بـ ( مُسبّع السبعة ) والذي ألف كتابه سنة 300 هـ كانت القراءات السبع يقرأ بها في الأمصار ، ولكن كان الغالب على أهل المدينة قراءة نافع ، وعلى أهل مكة قراءة ابن كثير ، وعلى أهل الشام قراءة ابن عامر ، وعلى أهل البصرة قراءة أبي عمرو ويعقوب ، وعلى أهل الكوفة قراءة عاصم وحمزة ، قال مكي بن أبي طالب: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب ، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم ، وبالشام على قراءة ابن عامر ، وبمكة على قراءة ابن كثير ، وبالمدينة على قراءة نافع ، واستمروا على ذلك فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب. اهـ وسبب عدم إيراد ابن مجاهد لقراءة يعقوب في كتابه رغم أنها كانت القراءة الأغلب على أهل البصرة في زمنه أنه لم يكن لديه إسناد بها ، فأورد بدلها قراءة الكسائي الكوفي رغم إيراده قارئين كوفيين هما عاصم وحمزة ورغم أنها كانت أقل شهرة في الكوفة منهما لتوفر إسنادها لديه .
2) في عصر ابن مجاهد قلّ انتشار رواية حفص عن عاصم بالكوفة وكانت رواية شعبة عن عاصم هي أشهر رواية عن عاصم بالكوفة ، بينما كانت قراءة حمزة أكثر شهرة من قراءة عاصم بالكوفة كما يشهد لذلك قول ابن مجاهد: وإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم. لأن أضبط من أخذ عن عاصم: أبو بكر بن عياش –فيما يقال– لأنه تعلمها منه تعلماً خمساً خمساً. وكان أهل الكوفة لا يأتمّون في قراءة عاصم بأَحَدٍ ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش. وكان أبو بكر لا يكاد يُمَكِّن من نفسه من أرادها منه، فقلَّتْ بالكوفة من أجل ذلك، وعَزَّ من يحسنها، وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات. اهـ
3) في القرن الخامس الهجري كانت قراءة يعقوب هي الغالبة على أهل البصرة كما يستفاد ذلك من قول الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني 371 ـ444 هـ قال أبو عمرو الداني : ائتم بيعقوب في اختياره عامة البصريين بعد أبي عمرو ، وسمعت طاهر بن غلبون يقول : إمام الجامع بالبصرة لايقرأ إلا بقراءة يعقوب . اهـ
4) أما أهل الشام فاستمروا يقرؤون بقراءة ابن عامر إلى نهاية القرن الخامس حتى قدم عليهم أحد أئمة القراء وهو ابن طاووس فأخذ يعلم رواية الدوري عن أبي عمرو ويقرئ بها أهل الشام فأخذت في الانتشار التدريجي بالشام حتى حلت محل قراءة ابن عامر ، كما يستفاد هذا من قول ابن الجزري : ولا زال أهل الشام قاطبة على قراءة ابن عامر تلاوة وصلاة وتلقينا إلى قريب الخمسمائة وأول من لقن لأبي عمرو فيما قيل ابن طاووس . اهـ
5) كان الإمام ورش شيخ الإقراء بالديار المصرية ورحل إلى نافع فقرأ عليه أربع ختمات ثم رجع إلى مصر وأخذ ينشر قراءة نافع وعنه انتشرت قراءة نافع في أرجاء المغرب العربي وكثير من البلاد الإفريقية ، وهناك سبب آخر مهم لانتشار قراءة نافع في المغرب العربي وهي أنها قراءة إمامهم مالك بن أنس رحمه الله فكما أخذ المغاربة بفقه أهل المدينة أخذوا أيضا بقراءتهم ، غير أن أهل المغرب الأدنى ( ليبيا وتونس ) وما حاذاها من البلاد الإفريقية كتشاد انتشرت فيهم رواية قالون عن نافع لسهولتها وخلوها من المدود الطويلة والإمالات التي في رواية ورش .
6) رواية الدوري عن أبي عمرو غلبت على أهل العراق والحجاز واليمن والشام ومصر والسودان وشرق إفريقيا إلى القرن العاشر الهجري ، ويستفاد هذا من النقل التالي عن الإمام ابن الجزري قال : قال ابن مجاهد وحدثونا عن وهب بن جرير قال قال لي شعبة تمسك بقراءة أبي عمرو فإنها ستصير للناس إسنادا وقال أيضا حدثني محمد بن عيسى بن حيان حدثنا نصر بن علي قال قال لي أبي قال شعبة انظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادا قال نصر قلت لأبي كيف تقرأ قال على قراءة أبي عمرو وقلت للأصمعي كيف تقرأ قال على قراءة أبي عمرو قال ابن الجزري وقد صح ما قاله شعبة رحمه الله فالقراءة عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو فلا تجد أحدا يلقن القرآن إلا على حرفه خاصة في الفرش وقد يخطئون في الأصول ولقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمسمائة فتركوا ذلك لأن شخصا قدم من أهل العراق وكان يلقن الناس بالجامع الأموي على قراءة أبي عمرو فاجتمع عليه خلق واشتهرت هذه القراءة عنه وأقام سنين كذا بلغني وإلا فما أعلم السبب في إعراض أهل الشام عن قراءة ابن عامر وأخذهم بقراءة أبي عمرو وأنا أعد ذلك من كرامات شعبة .اهـ
7) في الوقت الذي انتشرت فيه رواية الدوري عن أبي عمرو في الأقطار المشار إليها في الفقرة السابقة وهي (العراق والحجاز واليمن والشام ومصر والسودان وشرق إفريقيا ) كانت رواية حفص عن عاصم بدأت تنتشر لدى الأتراك ، وبدأت الدولة العثمانية تبسط سلطانها على معظم أرجاء العالم الإسلامي ، فصارت ترسل أئمة وقضاة ومقرئين أتراك إلى أرجاء العالم العربي فانتشرت رواية حفص عن طريقهم وكذا عن طريق المصاحف التي تنسخها الدولة العثمانية برواية حفص ، فأخذت رواية حفص عن عاصم تحل تدريجيا محل رواية الدوري عن أبي عمرو ، فآل الأمر إلى انحسار انتشار رواية الدوري فلم تبق إلا في اليمن والسودان والقرن الإفريقي، وقد اطلعت على كتب تجويد لعلماء يمنيين مؤلفة في حدود سنة 1370 هـ على وفق رواية الدوري وفيها أنها الرواية المقروء بها في حضرموت وأنحاء كثيرة من اليمن حتى ذلك الوقت ، ونظرا لضعف سلطان الدولة العثمانية على بلاد المغرب العربي ولشدة تمسك أهله بمذهب مالك فقد ظلت قراءة نافع هي السائدة به إلى اليوم، وذكر ابن عاشور في تفسيره “التحرير والتنوير” أن القراءات التي يُقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام هي: قراءة نافع براوية قالون ، في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي ليبيا. وبرواية ورش في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد والسودان. وقراءة عاصم براوية حفص عنه في جميع المشرق، وغالب البلاد المصرية، والهند، وباكستان، وتركيا، والأفغان، قال ابن عاشور: وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يُقرأ بها في السودان المجاور لمصر.اهـ
8) في الوقت الحاضر كما لا يخفى كان لوسائل الإعلام العصرية المرئية والمسموعة دور كبير في نشر رواية حفص في الأقطار التي لا زالت تقرأ برواية الدوري أو قالون أو ورش ، وكذلك لانتشار المصاحف المطبوعة برواية حفص في تلك الأقطار ، حتى كادت بقية الروايات عدا رواية حفص تنقرض ، والأمر لله تعالى من قبل ومن بعد ، وله في تقاديره الحكمة البالغة ، غير أنه بحمد الله بدأت في السنوات الأخيرة بوادر صحوة علمية عظيمة تجاه القراءات القرآنية في العديد من الأقطار الإسلامية ، وبدأ الشباب يقبلون على تعلم القراءات العشر وتعليمها وقراءتها والإقراء بها ، وهي ظاهرة صحية مبشرة بالخير.
والحمد لله رب العالمين |