صفحة جديدة 1
بسم الله الرحمن الرحيم
صَدَرتْ هذه المكاتبة إلى المجلس (مخلص
الدين) وفّقه الله ُلقَبول النصيحة، وآتاه لما يُقَرّبه إليه قَصْدًا صالحاً، ونيّة
صحيحة.
أصدرنـاها إليه بعـد حـمد الله
الذي﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا
تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[غافر:19]
ويُمْهِل حتَّى لا يَلْتَبِس الإمهالُ بالإهمال على المَغْرور، ويُذَكِّر ُبأيـَّام
الله ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾[الحج:47].
وتُحَذِّرُه صَفْقَةَ مَنْ باع
الآخرة بالدنيا، فما أحدٌ سواه مَغبون، عسى الُله أنْ يفيده بهذا التِّذْكار
ويَنْفَعَه، وتَأخذَ هذه النصائحُ بحُجْزَتِهِ عن النار، فإنِّي أخاف أن يتردَّى
فيخِرَّ مَنْ وَلاّهُ -والعياذ بالله- معه، والموجب لإصدارها ما لمحْنَاه من
الغَفْلة المُسْتَحكمة على القلوب، ومن تقاعُد الهِمَم مما يجب للرب على المربوب،
ومن أُنْسِهم بهذه الدار وهم يُزْعَجون عنها، وعِلْمِهم بما بَيْن أيديهم من عَقبة
كؤود وهم لا يتخففون منها، ولاسيما القضاة الذين تَحَمّلوا أعباءَ الأمانة على
كواهل ضعيفة وظهروا بصُوَرٍ كبارٍ وهي نَحيفة.
والله إنّ الأمرَ عظيم
والخَطْبَ جسيم، ولا أرى مع ذلك أَمْنًا ولا قرارًا ولا راحةً ولا استمراراً،
اللّهم إلا رجلاً نَبَذ الآخرة وراه، واتخذ إلهه هواه، وقَصر همّه وهمته على حظِّ
نفسه ودنياه، فغايةُ مَطْلَبِه حبُّ الجاه، والرغبة في قلوب الناس، وتحسينُ الزّي
والمَلبس والركُّبة والمجلس؛ غيرَ مستشعرٍ خَساسةَ حاله، ولا ركاكةَ تقَصُّدِه
﴿فَإِنَّكَ
لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾[الروم:52]، ﴿وَمَا
أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾[فاطر:22].
فاتــق الله
﴿الَّذِي
يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾[الشعراء:218]
]، وأَقْصِرْ أَمَلَك عليه، فإنّ المحروم مِنْ فَضْلِه مَحروم.
وما أنا وإياكم أيّها النّفَر
إلا كما قال حبيبٌ العجمي- وقد قال له قائل: ليتنا لم نُخْلَق- فقال: «قد
وَقَعْتُمْ فاحتالوا».
وإنْ خَفِيَ عليكَ بعضُ هذا
الخَطَر، وشَغَلتْك الدنيا عن معرفة الوَطَر فتأمل كلام النبوّة: «القضاةُ ثلاثة؛
قاض في الجنة، وقاضيان في النار».
وقول النبي صلى الله عليه وسلم
لأبي ذر رضي الله عنه مُشفقاً عليه: «لا تأمّرن على اثنين، ولا تَوَلَّينّ مالَ
يتيم».
ومَا أنَا والسَّيْرَ في
مَتْلَفٍ.. يُبَرِّحُ بالذَّكَرِ الضَّابِطِ.
هيهات!جفّ القلمُ، ونَفَذَ حُكم
الله.
ومن هناك شمَّ الناسُ من فم
الصدِّيق رائحةَ الكَبِد المشوي، وقـال الفاروق: ليت أمّ عمر لم تلده.
وقال عليّ رضي الله
عنه-والخزائنُ بين يَديه-: مَنْ يشتري منِّي سيفي هذا؟ ولو وجدتُ ما أشتري به رداء
ما بِعْتُه.
وقطع الخوفُ نِيَاطَ قلبِ عمر
بن عبد العزيز فمات من خشية العَرض.
وعلّق بعضُ السلف سوطاً يؤدِّب
به نفسَه إذا فَتَر.
فتُرى ذلك سُدًى أمْ نحنُ
المقرّبون وهمُ البُعَداء؟!
فهذه أحوالٌ لا تُؤخذ من كتاب
السّلم والإجارة والجنايات، وإنما تتأتى بالخضوع والخشوع، وأن تظمأ أو تجوع.
وممَّا يُعِينُكَ على الأمر
الذي دعوتُك إليه، ويُزوِّدُك في السفر للعرض عليه أنْ تجعل وقتًا تُعَمّره بالتذكر
والتفكر، وإنابةٌ تجعلُها مُعِدّةً لجلاء قلبك، فإنَّه إن استحكم صَدَاه صَعُب
تلافيه، وأعرض عنه من هو أعلم بما فيه.
فاجعلْ أكثرَ همومك الاستعداد
للمعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد، فإنه يقول:
﴿فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ **
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الحجر:
92- 93].
ومهما وجدتَ من همَّتك قصورًا،
واستشعرتَ من نفسك عمّا يذلِّلُها نفورًا، فاجردها إليه، وقِفْ ببابه واطلبْ، فإنه
لا يُعرض عمّن صَدَق، ولا يَعْزُب عن علمه خفايا الضمائر﴿أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾[الملك:14].
فهذه نصيحتي إليك، وحُجّتي بين
يَدَي الله إنْ فرّطتَ إذا سُئلت عليك.
فنسأل الله لي ولكَ قلبًا
شاكرًا ولسانًا ذاكرًا ونفسًا مطمئنةً بمنِّه وكرمه، وخَفِيّ لُطفه..
والسلام