صفحة جديدة 1
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو محمد عبد الله بن أبى زيد القيرواني رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصَوَّره في الأرحام بحكمته،
وأبرزه إلى رِفْقِهِ وما يَسّره له من رزقه، وعَلّمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله
عليه عظيماً، ونَبّهه بآثار صنعته وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخِيرة من
خَلْقِه، فهدى مَنْ وَفّقه بفضله وأضل مَنْ خَذَلَه بعدله، ويَسّر المؤمنين لليسرى
وشَرَح صدورهم للذِّكْرى، فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين، وبما
أتتهم به رسله وكتبه عاملين وتعلّموا ما عَلّمهم، ووقفوا عند ما حَدّ لهم، واستغنوا
بما أحلّ لهم عما حَرّم عليهم.
أما بعد..
أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه، وحِفْظِ ما أَوْدَعَنَا من
شرائعه، فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به
الألسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السُّنن من
مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها، وجُمَل من أصول الفقه وفنونه على
مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته مع ما سَهّل سبيل ما أَشْكَلَ من
ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين، لما رَغِبْتَ فيه من تعليم ذلك للولدان كما
تُعَلّمهم حروف القرآن ليسبق إلى قلوبهم من فَهْم دين الله وشرائعه ما تُرْجَى لهم
بركته وتُحْمَد لهم عاقبته، فأجبتك إلى ذلك لما رجوته لنفسي ولك من ثواب مَنْ عَلّم
دين الله أو دعا إليه.
واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق
الشر إليه، وأَوْلَى ما عُنِي به الناصحون ورَغِب في أَجْره الراغبون: إيصال الخير
إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها.
وتنبيههم على معالم الديانة وحدود الشريعة ليُرَاضوا عليها، وما
عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم، فإنه رُوِي أن تعليم الصغار
لكتاب الله يُطْفئ غضب الله، وأن تعليم شيء في الصغر كالنقش في الحجر.
وقد مَثّلْتُ لك من ذلك ما ينتفعون إن شاء الله بحفظه ويَشْرفون
بعلمه ويسعدون باعتقاده والعمل به، وقد جاء أن يُؤمَروا بالصلاة لسبع سنين
ويُضْرَبوا عليها لعشرٍ، ويُفَرَّق بينهم في المضاجع، فكذلك ينبغي أن يُعَلّموا ما
فَرَض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك من
قلوبهم، وسكنت إليه أنفسهم، وأَنِسَت بما يعلمون به من ذلك جوارحهم.
وقد فرض الله سبحانه وتعالى على القلب عملاً من الاعتقادات، وعلى
الجوارح الظاهرة عملاً من الطاعات.
وسأفصل لك ما شرطت لك ذِكْرَه باباً باباً ليَقْرُب من فَهْم
متعلميه إن شاء الله تعالى، وإياه نستخير وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلى العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد نبيّه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور
الديانات
من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله
غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك
له، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، ولا يبلغ كُنْه صفته الواصفون، ولا
يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته، ولا
يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو
العلي العظيم، العالم، الخبير، المدبر، القدير، السميع، البصير، العلي، الكبير،
وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه، خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به
نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات
الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين..
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ
إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام:59]..
على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وله الأسماء الحسنى والصفات
العلى، لم يزل بجميع صفاته وأسمائه، تعالى أن تكون صفاتُه مخلوقة وأسماؤه مُحدثة،
كَلّم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خَلْقُ من خَلْقِه، وتَجَلّى للجبل فصار
دكاً من جلاله، وأن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق فيَبِيد، ولا صفة لمخلوق فينفد.